من الأمور البديهية والمتعارف عليها أن لكل عمل بداية..! وفي كثير من الأحيان تكون له نهاية.. إما بتحقيق الهدف المنشود من وراء هذا العمل - أي النجاح – أو بعدم الوصول إلى الهدف المنشود ومن ثم الإخفاق..!

وكما أن لكل عمل بداية فإن التفكير الصحيح هو بداية العمل الناجح..! فكل منّا يريد أن يرى نفسه وقد حقق ما يحلم به..! أن يرى نفسه في المكانة المرموقة التي يتمناها..! ولكنْ قليل منّا من يسعى بحق لتحقيق حلمه، والمكانة التي يريدها لنفسه..! فالأحلام والتمني لا يحققـان واقعاً بذاتيهما..! وإنما ترجمة الأحلام والأماني إلى خطة علمية وعملية مدروسة، ومحددة الغايات والأهداف والوسائل، هي السبيل – بعد توفيق الله سبحانه وتعالى – إلى تحقيق الأحلام والأماني..

ولكن كيف نخطط؟! فالتخطيط يحتاج إلى تفكير، والتفكير مهارة تعتمد على إعمال العقل، والعقل يتطلب البعد بدرجات ليست بالقليلة عن الهوى والعاطفة، فضلاً عن الأحكام المتسرعة..! وأجدني أتساءل: كم منّا سعى إلى إعمال عقله في تطوير ذاته؟! وكم منّا استشعر أن بداية تطوير الذات تبدأ بتطوير ومن ثم امتلاك مهارة التفكير.. فتغيير الواقع إلى واقع أفضل لا يأتي بالأحلام والأماني، وهذه سنة الله في خلقه؛ إذ يقول الله سبحـانه وتعالى في محكم آياته: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11] ، فبداية التغيير يبدأ من النفس، ومحاولة تغيير الذات، أو محاولة تطوير الذات، يستلزم لإنجازه استعمال التفكير الصحيح، فالتفكير هو من أهم سمات وخصائص العقل.

والعقل من أعظم نعم الله التي اختص بها الإنسان، وميزه بها عن سائر مخلوقاته، وقد اختص الله سبحانه وتعالى العقل في آيات كثيرة، وحثنا بل وأمرنا سبحانه في آيات أخرى على النظر والتفكر في خلق السماوات والأرض، وخلق أنفسنا، وخلق الجبال، والحيوان... وغيرها من عظيم خلقه، بل وجعل الله سبحانه وتعالى التفكير من العبادات التي يتقرب بها المرء إلى ربه ويُثاب عليها.

والعقل إذا سُلب من الإنسان – وليس السلب بالجنون فقط (وهذا سلب إجباري للإنسان دور في حدوثه)، وإنما بتعطيله عن ممارسة أهم خصائصه (وهذا سلب اختياري؛ إذ لا يمكن لأحد أن يمنع آخر من التفكير) – نجده قد فقد أهم ما يميزه عن سائر المخلوقات، ويصبح التوافق الوحيد بينه وبين غيره من الناس محصوراً في الشكل الخارجي فقط..! والإنسان الذي يعمل على تعطيل التفكير لأسباب ذاتية قد تتمثل في عدة عوامل منها ما هو ذاتي مثل: إيثار الجهل على العلم، والركون إلى الراحة مفضلاً إياها على المشقة في طلب العلم، ومنها ما هو غير ذاتي أي مفروض عليه من البيئة المحيطة به، والمجتمع الذي يعيش بين جنباته، فإن هذا الإنسان إذا التُمِسَ له العذر فيما فُرض عليه قسراً، فليس له أي عذر فيما افترضه هو على نفسه باختياره..!

ونتساءل الآن عن ماهية دور العقل، وكيف لنا أن نستخدمه الاستخدام الصحيح..! ولن نقول الأمثل لما في ذلك من بعد عن الواقع، والحقيقة في آن معاً؛ لأن الاستخدام الأمثل عملية نسبية تتفاوت من شخص إلى آخر..

أولاً: ماهية دور العقل:للعقل أدوار كثيرة منها ما هو معلوم ومنها ما هو في علم الله سبحانه، وسوف نتحدث بإيجاز عن أهم أدوار العقل من خلال مجالات ثلاثة:

1- العقل والخبرة العملية: مما لا شك فيه أن استخدام الإنسان لعقله في النظر والتفكر في تجاربه الذاتية، وتجارب الآخرين من حوله، واستخدامه أيضاً في استخلاص العبر من الماضي، هذا التفكر، وذاك الاستخلاص للعبر يُعدّان من أهم مكونات الخبرة الذاتية للإنسان، والتي تعينه في التحديد والتحليل، والفهم، ومن ثم الحكم الصحيح على ما يعتريه ويعترضه من مشكلات ومعضلات تقع في دائرة هذه الخبرة.

2- العقل الـمُغذَّى بالبيانات والمعلومات والخبرات ذات القيمة:يرشدنا دائماً إلى الطريق الصحيح، فالذي يُعمِلُ عقله دائماً في الحكم على الأشياء، وينحي الهوى والعاطفة جانباً يصل حتماً إلى هذا الطريق.

3- العقل والتخطيط: فمن أهـم أدوار العقل عملية التخطيط، والتخطيط الصحيح يجنب الإنسان التخبط في الحياة، ويرشده دوماً إلى العمل المنضبط والذي يؤدي به في النهاية إلى الوصول إلى مبتغاه على بصيرة من أمره.

ثانياً: كيف نستخدم العقل؟!!وهل لنا من وسائل عملية معينة على هذا الاستخدام؟! هذه الأسئلة قد تدور في خلدنا، دون أن نستشعرها، ونضع أيدينا عليها..!

وقد يكون في الوسائل التالية ما يعيننا على هذا الاستخدام:

1) اسأل نفسك هذا السؤال: هل تملأ عقلك بالتأمل والتفكير الإيجابي؟

يمكنك معرفة إجابة السؤال من خلال تصرفاتك في الأمور كلها، ومن خلال الوجهة التي توجه جل اهتماماتك إليها. ومما لا شك فيه أن التأمل والتفكير الإيجابي يرفعان وينميان درجة الذكاء لديك.. فكلما ملأت عقلك بالتأمل والتفكير الإيجابي.. كلما أرشدك عقلك إلى الطريق الصحيح..! فمن المتعارف عليه أن المخرجات الصحيحة يلزمها بل وتبنى على مدخلات صحيحة..!

والتفكير الإيجابي ينمي درجة الذكاء؛ فالذكاء يمكن اكتسابه عن طريق التفكير الصـحيح.

ولكن كيف يمكننا الوصول إلى تقوية مهارة التفكير الصحيح؟!

يقترح د.(إدوارد دو بونو) - في الكتاب الذي شارك في تأليفه "تعلّم كيـف تفكر" - مجموعة وسائل معينة على اكتساب مهارة التفكير الصحيح.. ذهب فيها إلى:

1- يجب علينا أن نحدد أي مشكلة – أو أي موضوع - نتعرض لها تحديداً لا لبس فيه، وهذا التحديد الواضح يُبنى على رؤيـة المشكلة من جميع الزوايا، مع عدم إغفال جانب أو زاوية معينة بل رؤية كافة العناصر المتعلقة بهذه المشكلة، وعدم الحكم على هذا الموضوع إلاّ بعد تحديد إيجابياته وسلبيـاته.. وهذا النوع من التفكير يؤدي إلى توسيع مدارك العقل، ويبعدك عن الآراء الجامدة والحكم المتسرع الذي يؤدي إلى النتائج السلبية لا محالة.

2- العمل الجاد لجمع وفحص ومراجعة جميع البيانات والمعلومات المتعلقة بالمشكلة – أو الموضوع - محل الدراسة قبل اتخاذ أي قرار قاطع فيها.

3- تحديد الغايات والأهداف للموضوع – أو المشكلة أو المشروع - محل الدراسة، فتحديد الغايات والأهداف ترشدنا إلى الطريق الصحيح، وتقودنا إلى حل المشكلات التي تعترضنا حلاً سليماً؛ إذ يوفر هذا التحديد للغايات والأهداف معياراً يمُكِّننا من قياس أدائنا أثناء القيام بإنجاز هذا الموضوع أو المشروع، وتصحيح المسار في حال الانحراف، ومن ثم قياس النتائج في نهاية العمل.

4- وضع خطط للنتائج والعواقب: فمن الثمار المفيدة لعملية التفكير أنها تساعدك على استشراف المستقبل، وتصور النتائج الإيجابية والعمل على تحقيقها، وتصور العواقب أيضاً والعمل على تجنبها أو تقليلها.

5- تحديد الأولويات الرئيسة: وهذه الخطوة هامة للغاية؛ إذ تجعلنا نعيد النظر فيما تجمع لدينا من معلومات عن الموضوع محل الدراسة، ثم نختار الأفضل من بين هذه المعلومات.

6- التفكير في كل البدائل المتاحة بين أيدينا.. وإذا لم نجد الحل الأمثل من بين هذه البدائل فيجب علينا أن نبحث عن بدائل أخرى ولا نتوقف ولا نعجز، ولا ندع مجالاً لليأس أن يثبطنا، ويحد من همتنا في إيجاد بدائل جديدة..!
7- علينا ألاّ نهمل وجهات النظر المختلفة مع وجهة نظرنا.. بل يجب علينا أن نأخذها بعين الاعتبار، فقد
يكون حل مشكلتنا كامناً في إحداها..!

2) علينا أن نترك لعقولنا الفرصة والوقت الكافيين، وتهيئة الظروف من حولنا، لكي تقوم عقولنا بتحليل المشكلة والتخطيط لحلها، والبحث بين البدائل عن أفضل الحلول المتاحة والممكنة.

3) علينا أن نبتعد عن الانفعالات العاطفية، والهوى الشخصي، وآراء الآخرين السلبية، لكي يتمكن العقل من إصدار أحكامه بوضوح تام.

4) الاعتراف بالآخرين.. والاختلاط بهم، وتبادل الأفكار معهم من خلال قراءة كتبهم، أو سماع آرائهم، أو الدخول في حوارات أو مناقشات معهم، فمن المعروف أن العقول تلقّح العقول.. والعقل المنغلق على ذاته لن يتقدم أبداً، والحكمة ضالّة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها..!

5) علينا القيام بمراجعة ومحاسبة أنفسنا باستمرار.. فهذه المراجعة وتلك المحاسبة تمكننا من اكتشاف أخطائنا، ومن ثم تساعدنا على تجنبها في المستقبل، والعقل يدلنا إلى التغيير الذي يجب علينا اتباعه لكي نسير في الطريق الصحيح، وبالتالي تحقيق النجاح الذي ننشده، والأصعب من تحقيقه المحافظة عليه.

6) كثيراً ما تعلق في أذهاننا ذكريات، ومواقف مؤلمة كلّما تذكرناها جلبت لنا الهم والحزن، وكانت عوامل مساعدة للإحباط والركون.. ولكي نتخلص من سلبيات تلك الذكريات علينا أن نمكن عقولنا من محوها، بشغلها بالتفكير الإيجابي والبنّاء في أمور هامة ومفيدة، وعدم التفكير في هذه الذكريات المؤلمة، وإن وردت على الذهن نعمل على تجنبها فوراً.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف يمكننا استخدام قدرات عقولنا على أفضل ما يكون؟!

يقول د. (إدوارد دو بونو) في كتابه علّم نفسك التفكير: "الإدراك هو البوابة التي يطل منها العقل على الواقع، فهو الطريقة التي ننظر بها إلى العالم، وهو الطريقة التي نقسم بها العالم إلى أجزاء يمكننا التعامل معها.. فمعظم التفكير اليومي يتم ضمن فترة الإدراك من التفكير، فنحن لا نستخدم كل الأساليب في كل المواضع والحالات، ومن ذلك مثلاً أننا لا نستخدم الرياضيات مثلاً إلاّ في المسائل التقنية.

قد يقوم الحاسوب في المستقبل القريب بجميع الجوانب المعلوماتية من التفكير، ويبقى للإنسان الجانب الأكثر أهمية من التفكير وهو الإدراك".

وأخيراً نوجز أهم إيجابيات التفكير العميق والمتميز في عدة نقاط:

1- يحقق التفكير العميق، الإيجابي والمتميز بلا شك تغييراً كبيراً في واقعنا، ويقودنا إلى الواقع الذي نتمناه لأنفسنا.
2- يساعدنا التفكير العميق والمتبصر على التميز والإبداع، بعد تمكيننا من اكتشاف قدراتنا ومواهبنا، ومساعدتنا على استخدام هذه القدرات وتلك المواهب الاستخدام الأفضل إن لم يكن الأمثل..!
3- يحقق التفكير العميق والمتميز التوازن المرغوب بين جميع شؤون حياتنا..! والتي تتسم بالاختلاف والتداخل.
4- يوضح ويجلي لنا - التفكير العميق والمتميز - الرؤيا بين المتاح وغير المتاح من الإمكانيات المادية الملموسة، وبين الممكن فعله والمستحيل فعله.
5- يقودنا التفكير العميق والمتأني إلى بناء إستراتيجية واضحة المعالم لمستقبلنا؛ إذ يمكننا من تحديد الرؤية، والغاية، والأهداف، والوسائل... الخ.
6- يولد التفكير العميق والإيجابي فينا الطموح الدائم، ومن ثم العمل المستمر لتحقيق أهدافنا.