الذكريات تتشكل على مراحل. ففي البداية تكون الذكريات العاطفية غير مستقرة، إذ إنها لا تشكل أكثر من نسق من الإشارات الكهربائية في الدماغ :






الهبوط الدراماتيكي لطائرة الركاب الأميركية أثناء رحلتها الجوية على مياه نهر هادسون في يناير 2009، وإنقاذ كل ركابها البالغ عددهم 155 شخصا، لم تكن اختبارا لخبرة التحليق الممتازة للطيار وأفراد طاقم الطائرة الآخرين فحسب، بل وأيضا اختبارا لهدوئهم والتفكير المركز لهم، أثناء حدوث الأزمة.
ولكن، أثناء مقابلات إعلامية أجريت معهم لاحقا، تحدث قائد الطائرة الكابتن تشيلسي سالنبيرجر وغيره من أفراد الطاقم عن تعرضهم لتكرار ظهور لقطات الأحداث السابقة، إضافة إلى شعورهم بتشتت الانتباه، وصعوبة النوم ـ وهذه كلها أعراض نموذجية تتبع حدوث الصدمة.


تحديات الذاكرة :



ورغم أن سقوط الطائرة يظل نادرا لحسن الحظ، فإن الكثير من الأشخاص يمرون دوما، بأشكال أخرى من التحديات البدنية والعاطفية.
وقد تتحول هذه التحديات، جزئيا، إلى صدمات، لأن الشخص يسترجعها ذهنيا بشكل متكرر.
وفيما يشفى العديد من الأشخاص من التأثيرات العاطفية الناجمة عن صدمة ما بعد وقوع الحوادث، فإن اضطرابات القلق تظهر لدى آخرين.
ويمكن لوسائل العلاج النفسي مساعدة أولئك الأشخاص في التخلص التام من الحساسية المرتبطة بالذكريات التي تثير مخاوفهم.
إلا أن هذه الوسائل لا تؤدي مهمتها لكل الأشخاص المعالجين. وتقترح الأبحاث حول تكون الذاكرة، استخدام وسيلتين قد تثمران نتائج جيدة في المستقبل. الوسيلة الأولى هي توظيف الأدوية، أو طرق أخرى لتعزيز العلاج النفسي.
أما الوسيلة الثانية فتبدو وسيلة جذرية في بعض جوانبها، إذ إنها تحاول إزالة الجانب المثير للخوف من الذاكرة.


ذكريات «متحركة» :



عرف علماء النفس والباحثون في علوم الأعصاب منذ زمن بعيد أن الذكريات تتشكل على مراحل.
ففي البداية تكون الذكريات العاطفية غير مستقرة، إذ إنها لا تشكل أكثر من نسق من الإشارات الكهربائية في الدماغ.
إلا انه وعندما تؤدي الحادثة إلى ظهور مشاعر أو عواطف قوية، فإن البروتينات وهرمونات التوتر، والنواقل العصبية، تقوي تلك الإشارات، الأمر الذي يقود إلى تعزيز الذكريات وتحويلها إلى ذكريات دائمة، أو هذا كان هو المعتقد السائد.. حتى الآن.
وقد أظهرت التجارب على الحيوانات أن عملية استرجاع الذكريات المخيفة تعيد تنشيط الذكريات نفسها بطريقة تعيدها إلى حالتها البيولوجية غير المستقرة.
ولكي تظل تلك الذكريات مستمرة فإن عليها أن تخضع كل مرة لإعادة تعزيزها. أما الدراسات الاستكشافية التي أجريت على مجموعات من البشر، فإنها تفترض أن أمرا ما يؤدي إلى إحداث اضطراب في هذه العملية ـ مثل تناول دواء، أو التدرب على نوع من أنواع السلوك ـ بل وحتى أن الذكريات القوية المعززة يمكن إضعافها أو إزالتها كلية.


تعزيز العلاج النفسي :

ينصب العلاج النفسي لاضطرابات القلق على محاولة تخفيف حدة ردّات الفعل العاطفية لأمر ما يعتبره المريض مفزعا (مثل العناكب أو الارتفاعات).
وهنا، يعتبر «علاج التعريض للمخاوف» exposure therapy واحدا من أكثر المنطلقات المفيدة.
وهو نوع من العلاج السلوكي المعرفي الذي يساعد المرضى على التدرب على الاستجابة، بشكل مختلف، للمحفزات أو الذكريات المخيفة.
ويشير علماء الأعصاب إلى هذه العملية بوصفها عملية لاقتلاع الخوف fear extinction، أي أنها تمنع حدوث استجابة للخوف.
وقد أشارت دراسة حديثة إلى أن عملية اقتلاع الخوف تشمل في الحقيقة، ميلاد ذكريات جديدة.
إذن، فإن كانت عملية اقتلاع الخوف هذه تؤدي إلى ميلاد ذاكرة من «الاستجابات المضادة» الجديدة، فإن تعزيز هذه الذاكرة الجديدة بوسيلة من الوسائل ربما سيساعدها على أن تنتصر في تنافسها مع الذاكرة التي تثير المخاوف.
ولهذا قام الباحثون باختبار عدد من الأدوية للتعرف على جدواها مع العلاج النفسي، بهدف تقوية عملية اقتلاع الخوف.
وقيمت عدة دراسات استدلالية، فاعلية واحد من عقاقير المضادات الحيوية هو «دي ـ سيكلوسيرين» D-cycloserine الذي يعزز نشاط «جلوتامين»، الناقل العصبي «المحفز على الإثارة» الذي ينشط خلايا الدماغ.
وفي دراسة مراقبة عشوائية مزدوجة خصص عقار «دي ـ سيكلوسيرين» مع الحبوب الوهمية، عشوائيا، لـ28 مشاركا من الذين يخافون من الارتفاعات، قبل حضورهم لجلستين من علاج التعريض الافتراضي لمخاوفهم.
وبعد أسبوع من ذلك ظهر تحسن لدى الأشخاص الذين تناولوا عقار «دي ـ سيكلوسيرين»، مقارنة بالذين تناولوا الحبوب الوهمية، وبدا هذا التحسن، وفقا لإفاداتهم، في جوانب مخاوفهم، وكذلك في جوانب التوتر لديهم بعدما أجرى الباحثون قياسات على توصيلية الجلد لديهم.
كما قام باحثون في دراسة استدلالية أخرى أجريت على 27 شخصا يعانون من اضطراب القلق الاجتماعي، بإعطاء المشاركين عشوائيا عقار «دي ـ سيكلوسيرين» أو الحبوب الوهمية، قبل ساعة من حضور كل جلسة من أربع جلسات للعلاج النفسي موجهة لتخفيف المخاوف من رهبة التحدث أمام الجمهور.
وظهر أن المشاركين الذي تناولوا عقار «دي ـ سيكلوسيرين» شعروا بتخفيف مخاوفهم بعد الجلسات مباشرة، وكذلك بعد مرور عام كامل، مقارنة بالآخرين الذين تناولوا الحبوب الوهمية.
كما استنتجت دراستان استدلاليتان أخريان أن عقار «دي ـ سيكلوسيرين» ربما يساعد أيضا في تحسين استجابات المعانين من اضطراب الوسواس القهري للعلاج النفسي الموجه لتخفيف حدة الهواجس والأعراض الأخرى.


محو المخاوف من الذاكرة :



إلا أن هناك منطلقات مختلفة تتمثل في محو العنصر المثير للخوف من الذاكرة، أو على الأقل إزالة التأثير العاطفي القوي له. ويشير علماء الأعصاب إلى هذه الاستراتيجية بوصفها «إعادة التماسك مع الإضعاف» impairing reconsolidation.
ولكن، ولكي تؤدي هذه الوسيلة العلاجية أهدافها فإن عليها أن تكون متزامنة في توقيتها وبدقة كبيرة، بحيث انه يتم تنفيذها أثناء فترة استرجاع الذكريات المختزنة أو بعدها مباشرة، وقبل أن تعود الذاكرة إلى تماسكها مرة أخرى، وهي الفترة التي تمتد لبضع ساعات فقط.
ولأن هرمونات التوتر مثل الكورتيزول تساعد في تماسك الذكريات المثيرة للخوف، فإن الباحثين غالبا ما حاولوا اختبار أدوية «حاصرات بيتا» beta blockers (التي تكافح تأثيرات هذه الهرمونات) باعتبارها وسائل محتملة للتأثير على عملية إعادة التماسك.
وقد أفاد باحثون في جامعة أمستردام نتائج دراسة مراقبة عشوائية وجدت أن دواء «بروبرانولول» propranolol، وهو أحد أدوية «حاصرات بيتا»، بمقدوره محو الذكريات المخيفة.
وفي إحدى مراحل تجربتهم المسماة «مرحلة اكتساب الخوف» «fear acquisition» تعرض 40 متطوعا لصدمة خفيفة في كل مرة شاهدوا فيها صورا لعناكب.
ولذا فلم يكن من المدهش أن يتعلم المتطوعون بسرعة على الخوف من العناكب، كما أشارت إلى ذلك استجابات «الفزع» التي ظهرت لديهم لدى مشاهدة العناكب مرة أخرى.
وعندما كان المتطوعون نائمين، فإن أدمغتهم كانت تعيد تماسك ذاكرتهم حول الأمور التي تعرضوا إليها أثناء تجربتهم.
ويفترض هذا البحث أن قرين آمون hippocampus في الدماغ يساعد في تماسك الذاكرة التقريرية declarative memory (شكل العناكب)، في حين تقوم اللوزة amygdale بالعمل على تماسك الذاكرة العاطفية (العناكب كانت مخيفة).
وفي اليوم الثاني تناول قسم من المتطوعين دواء «بروبرانولول» بينما تناول القسم الآخر الحبوب الوهمية. ثم شاهد جميع المتطوعين صورا للعناكب مرة أخرى، بحيث كان بإمكان الباحثين، بواسطة تجربتهم هذه، إعادة تنشيط الذكريات المخيفة وقياس استجابات «الفزع» لدى المتطوعين.
وحتى تلك اللحظة ظهرت لدى المتطوعين في كلتا المجموعتين استجابات «فزع» متقاربة، عند رؤيتهم صور العناكب.
ثم خلد المتطوعون للنوم مرة أخرى. وكان مبدأ النظرية هنا يتمثل في أن دواء «بروبرانولول» سيقوم بالتشويش على المستقبلات الخاصة باللوزة amygdale، وبهذا فإنه سيمنع إعادة تماسك جانب الذاكرة المتعلق بالخوف، إلا أنه لن يؤثر على عملية إعادة تماسك الذاكرة التقريرية في قرن آمون.
وأخيرا وفي اليوم الثالث، شاهد المتطوعون صور العناكب مرة أخرى.
وظهر أن الأشخاص الذين تناولوا «بروبرانولول» كانوا أقل فزعا بكثير لدى رؤيتهم المشاهد المخيفة مقارنة بالذين تناولوا الحبوب الوهمية.
كما انعدمت استجابات الفزع لدى البعض منهم. وفي الوقت نفسه فإن المتطوعين الذين تناولوا دواء «بروبرانولول» كانوا يتذكرون لماذا كانوا خائفين من صور العناكب (الأمر الذي يشير إلى أن ذاكرتهم التقريرية ظلت جيدة)، لم يعودوا خائفين (الأمر الذي يفترض أن الذاكرة العاطفية قد تم تغييرها بنجاح).


توقيت العلاج :



إلا أن توقيت العلاج بالأدوية كان أهم الأمور. فقد مرّ 20 متطوعا آخرين بنفس مرحلة اكتساب الخوف أثناء التجارب، وتناولوا دواء «بروبرانولول» في اليوم الثاني من دون مشاهدة صور العناكب مرة أخرى ـ ما يعني أنهم لم يعيدوا تنشيط الذكريات المخيفة.
وفي اليوم الثالث شاهد هؤلاء المتطوعون صور العناكب مجددا. وكانوا فزعين مثلما كانوا في مرحلة اكتساب الخوف.
وهذا يفترض أن الذاكرة المخيفة يجب استعادتها بطريقة ما، لكي يمكن إرجاعها إلى حالتها البيولوجية الضعيفة قبل أن يتمكن دواء «بروبرانولول» من درء تماسكها.
ووجدت دراسة مراقبة عشوائية استدلالية على 19 مريضا باضطراب إجهاد ما بعد الصدمة post-traumatic stress disorder (PTSD) أيضا أن «بروبرانولول» بمقدوره المساعدة في محو المحتويات العاطفية من الذاكرة طويلة المدى المصدومة.
وقد خصص باحثون في جامعة ماكجيل أما دواء «بروبرانولول» أو الحبوب الوهمية لـ19 مريضا بحالات إجهاد ما بعد الصدمة المزمنة، لتناولها مباشرة بعد وصفهم للأحداث الأصلية التي أدت إلى صدمتهم.
وبعد مرور أسبوع رصد العلماء معدل ضربات القلب، درجة التعرق، والقياسات الفسيولوجية الأخرى كلما استرجع المتطوعون ذكرياتهم عن تلك الأحداث. وظهر أن المشاركين الذين تناولوا «بروبرانولول» بعد إعادة تنشيط الذكريات المثيرة للمخاوف كانت لديهم معدلات أقل لضربات القلب، كما رصدت لديهم جوانب أضعف في التوتر الفسيولوجي مقارنة بالذين تناولوا الحبوب الوهمية.


اتجاهات المستقبل :



نشر باحثون في جامعتي نيويورك وتكساس نتائج دراسة أجريت على الحيوانات، افترضت أن من الممكن التغلب على الخوف باستخدام وسيلة التخلي السلوكي المضبوط في توقيته، بدلا عن الدواء، بهدف محو الذكريات المخيفة، وبالرغم من أن هذه الدراسات ما زالت في بداياتها فإن الأبحاث تظهر أن يمكن التلاعب بالذاكرة، أي تكييفها، لتقليل الآلام العاطفية.


محو الذكريات المثيرة للخوف :



- عملية استرجاع ذكريات مخيفة تعيد تلك الذكريات إلى شكل بيولوجي غير مستقر، يمكن التلاعب به، أي تكييفه.
- وجد الباحثون أن من الممكن في بعض الحالات خفض حدة جوانب الذاكرة المثيرة للمخاوف.
- رغم أن الأبحاث لا تزال في بدايتها فإن بمقدورها تعزيز علاج اضطرابات القلق.