لماذا نجد صعوبة في أن نستمع للآخر وأن يفهمنا الآخر، سواء أكان ذلك في البيت أم في العمل وبين الأصدقاء؟ الجواب ببساطة لأنّ سوء الفهم، الذي يتمثل في أفكارنا المسبقة وانتظاراتنا ومشاعرنا التي تؤثر في نقاشاتنا، هو دائماً يلازم أي عملية تواصل.

قالت ليلى لأختها الصغرى رانيا:
"أنا متعبة جدّاً، أفضل أن نتحدث عن حفل عيد ميلادك غداً". ولكن رانيا لم تكن متعبة وكانت تريد أن تتحدث. لهذا، فسرت هذه الأخيرة كلام أختها الكبرى على أنها تريد أن تبقى وحدها بعيداً عن الإزعاج. فخرجت رانيا من الغرفة وصفقت الباب خلفها. وهذا مجرد مثال عن سوء التفاهم الذي نعيشه يومياً بينما نتكلم مع الآخرين.

لكي نتبادل أطراف الحديث، علينا أن نكون قادرين على أن ننقل للطرف الآخر ما نشعر به عاطفياً وبدنياً من خلال كلامنا معه، ويجب أن يكون الطرف الآخر بدوره قادراً على أن يشعر بالضبط بما نشعر به نحن. ولكن الحقيقة أنّه مهما كان الطرف الآخر متعاطفاً إلا أن تحقق هذا الشرط للتواصل مستحيل. من وجهة نظر المحللين والأطباء النفسيين، فإن سوء التفاهم هو الأمر العادي في التواصل بين الناس. وحتى الأشخاص الذين لهم الاهتمامات والميول نفسها، ويهتمون بالقضايا نفسها وبالمواضيع نفسها، يجدون وسيلة لكي لا يتفاهموا، ولكي لا يستمعوا إلى بعضهم البعض. والحقيقة أنّه من خلال حواراتنا، كل منا يسعى بشكل أٌقل إلى أن يتحاور وأن يعطي المعلومة وأن يتفاهم، ويسعى أكثر إلى الاستمتاع بأن تكون له الكلمة الأخيرة.

غالباً، لا يكون لنقاشاتنا أي هدف سوى تقوية قناعاتنا التي كنا نحملها منذ بداية فتح النقاش. فالنقاش هو دائماً طريقة لكي يقول المرء: "أنا موجود". ولهذا، كثيراً ما تأخذ نقاشاتنا شكل حوار أحادي "مونولوج" لكن بين شخصين، حيث ينتظر كل طرف بفارغ الصبر أن يسكت الطرف الآخر لكي يقول هو فكرته. لكن يجب على كل منا أن يأخذ من وقته قسطاً لكي يستمع إلى الطرف الآخر ويحترمه ويحاول أن يتبنى طريقة الآخر في النظر إلى الأشياء. لكن، على ما يبدو فإنّ الحقيقة هي أن مخاوفنا وصراعاتنا الداخلية تجعلنا صماً.






- الخلط بين الأشخاص:



الكلام هو طريقة لتقريب المسافة التي تفصلنا عن الآخر، لكننا أبداً لا نلتقي مع "ذات" الآخر. الأسوأ من هذا، هو أن هناك دائماً تقريباً خطأ في تحديد الشخص المقصود. إلى من نوجّه في الحقيقة أغلب طلباتنا للحصول على الانتباه والحب وغضبنا؟ إلى أفراد يذكروننا من دون وعي، بالآخر كما عرفناه أيام طفولتنا الأولى: آباؤنا وأمهاتنا.

وقد اكتشف فرويد آلية نفسية جديدة تقوم بتشجيع سوء التفاهم وتشوش على التواصل ألا وهي انعكاس الذات على الآخر. مثلاً، لا تستطيع فاطمة، 42 سنة، أن تجري حواراً واحداً هادئاً مع صغرى بنتيها الاثنتين، هالة التي تبلغ من العمر 14 سنة. إنها واعية تماماً بأنها أقل تسامحاً ولطفاً مع ابنتها الصغرى مما هي عليه مع ابنتها الكبرى، لكنها لا تعرف ما الذي يدفعها إلى التحدث مع ابنتها الصغرى هكذا بقسوة. والحقيقة أنّ العينين اللامعتين للطفلة المراهقة تجعلان الأُم تتذكر الغيرة الرهيبة التي كانت تشعر بها تجاه أختها الصغرى في الماضي. فتقوم الأُم بمعاملة ابنتها الصغرى بقسوة لم تكن في الواقع تقصد توجيهها إليها، فالأُم هنا تتعامل مع البنت كما كانت تتمنى أن تعامل اختها. "إن عكس الذات على الآخر أمر يبعثنا إلى سنوات الطفولة الأولى". تقول المحللة النفسية فيرجينيا ميغلي. وتنصحنا من أجل تطوير قدرتنا على التفاهم مع الآخر بأن نتعلم كيف ننصت إلى الطفل الذي كنا عليه في الماضي، وأن نتصالح معه. إنها خطوة أولى مهمة جدّاً لابدّ منها إن كنا نريد أن نتوقف عن تلويث حواراتنا ونقاشاتنا بعكس ذاتنا على الآخر.

إنّ الوالدين اللذين يفرضان على طفلهما كيف يجب أن يفكر وكيف يجب أن يحس، وينكرون عليه مشاعره الحقيقية، يمكنهم بهذا التصرف أن يحولوا الطفل إلى متخلف في مجال التواصل مع الآخرين. والشيء نفسه بالنسبة إلى أب أو أم غير قادرين على التعبير عن رغباتهم. وبشكل أقل، بل نادر، نجد أن هناك ميولات اكتئابية لدى البعض هي ما يمكن أن يفسر الانكفاء على الذات أو النرجسية المبالغ فيها، وتمنعه من أن يجد الآخر مهماً. وكمثال على ذلك الأشخاص المرضى بالبارانويا، الذين يكونون متيقنين بأنّ الآخر يسعى إلى مضايقتهم، فيبقون دائماً في وضعية المدافعين ولا يتفاهمون أبداً معه. ولكن في الحياة اليومية، فإنّ المرض أو الأُم أو التعب الشديد قادرة على التأثير سلباً في قدرة الإنسان على الاستماع والتواصل.








- الكلام مهم وليس مضمونه:



إذن ما سر الأشخاص الذين يجيدون التواصل؟ أين هو المخرج بين الخوف من الصمت والتهديد بسوء التفاهم؟ الحل أن تعرف نفسك جيِّداً وأن تتوقف عن اعتبار نفسك شخصاً معيّناً، في حين أنك في الواقع لست كذلك. وعموماً، يمكن أن تكون لك صورة جيِّدة عن نفسك، لكن مع نزعة عدوانية أقل تجاه الآخر، وبهذا تكون شخصاً يجيد التواصل مع الآخرين دون سوء فهم.

وتوجد أيضاً تقنيات معينة يمكن اللجوء إليها من أجل تواصل أفضل. فهناك مثلاً ما يسمى البرمجة العصبية اللغوية، والتي تعلم الإنسان كيف يُحدد ما هي طريقة تواصل الآخر لكي يُمرر إليه رسائله بشكل أسهل. وهناك أيضاً تقنية التوصل غير العنيف والتي تسهل التحاور بمرونة والإنصات باحترام، حتى في حالة الاختلاف وعدم الاتفاق. كما أن ثمة تقنية تدريب الذات وهي طريقة لتطوير تركز على حالة الفرد غير المستقل عن الآخرين.

وكما كتبت ماري هيلين ليون، الدكتورة في السيكولوجيا "يرتبط كل إنسان بالآخر في سلسلة الحياة الاجتماعية، وفي سلسلة الحياة ككل، فإن كل إنسان يعيش مرتبطاً بالآخر". والكلمات هي أكثر شيء يخدم هذا الارتباط. وعلى الرغم من كل شيء فإنّه في النهاية لا يهم مضمون الرسائل، نحن نتكلم لأننا بشر، نحن "كائن متكلم" كما قال العالم النفسي الشهير جاك لاكان