موقف وحوار
خرج موسى من مكتب مديره المباشر وهو يكلم نفسه بكلمات غير مفهومة، وقد بدت عليه علامات الحزن المختلط بالغضب، وفي هذه الأثناء كانت عينا زميله علاء ترقب الموقف وتشاهد ما ارتسم على وجهه من علامات الاضطراب، وهنا ما كان من علاء إلا أن أخذ بيد موسى وذهبا معا إلى مكان استراحة الموظفين، حيث دار بينهما الحديث التالي:
- علاء: ما بك يا موسى، لم أرك من قبل بهذه الحالة! ما الذي جرى؟

- موسى: هل تصدق يا علاء أنني قد حصلت اليوم على إنذار مكتوب من مديري بسبب تأخري عن العمل يوم أمس، بالرغم من أنني قد أخبرته أن ذلك كان بسبب ظرف عائلي خاص وقاهر؟ هل تعلم يا علاء أنني ومنذ أن بدأت العمل في هذه الشركة لم أتأخر قط عن أوقات الدوام المحددة؟

- علاء: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا تضايق نفسك يا موسى فهذا هو ديدنهم في هذه الشركة، إذا أحسنا وأبدعنا لم نلق منهم إلا النكران، وإذا صدرت منا أي هنة أو كبوة كانوا لنا بالمرصاد!

- موسى: الأمر أكثر من ذلك يا علاء، فهم لا يمارسون الترصد والنكران وحسب بل المحاباة أيضا! فهل يعقل أن تتم ترقية الموظف الجديد سمير في إدارتنا وهو لم يكد ينهي فترة التجربة! بينما أنا أمضيت أكثر من خمس سنين ولم أحصل فيها على ترقية أو زيادة في الراتب حتى اللحظة!

- علاء: لقد يأستُ منهم يا موسى، فأنا أمضيت معهم أكثر من اثنتي عشرة سنة ولم أزل مكانك راوح، ولولا كبر سني وصعوبة سوق العمل لبحثت عن وظيفة أخرى، فاصبر وأمرك لله!
والسؤال المطروح هو
ما هو النظام العادل والفعَال للمكافآت والجزاءات الذي يجنب موظفي أي مؤسسة أو شركة كل هذه المخالفات الإدارية المريعة المذكورة في مثالنا أعلاه من ترصد ونكران ومحاباة وغير ذلك من الأمراض؟
أما رأي الاستشاري
سيكون حديثنا في هذه العجالة عن المكافآت والجزاءات وليس الأجور والرواتب فهذه مسألة ومبحث آخر ستكون لنا معه وقفة أخرى في المستقبل إن شاء الله.
وقبل أن نخوض في التفاصيل فقد اخترنا مصطلح المكافآت وليس الثواب لكون مصطلح المكافأة يختص بالعلاقات بين العباد أنفسهم، وليس كمصطلح الثواب والذي غالبا ما يكون بين الله سبحانه وعباده، وقد قال رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام "من أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا، فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافئتموه" (السلسلة الصحيحة) لذا فمصطلح المكافأة أقرب من غيره إلى السياق الإداري، أيضا فقد فضلنا استعمال مصطلح الجزاءات عن مصطلحي العقوبات أو الإجراءات التأديبية وذلك لكون مصطلح الجزاءات أكثر حيادية من غيره، ودليل ذلك أن لفظ الجزاء استخدم في القرآن الكريم للتعبير عن مثوبة عمل الخير، كما استخدم أيضا للتعبير عن عقوبة عمل الشر، لذا فمصطلح الجزاءات أكثر قبولا لدى النفس في السياق الإداري من مصطلح العقوبات المتعلق بشكل أكبر بالجنايات والجرائم، أو الإجراءات التأديبية المرتبط غالبا بصغار السن والأحداث.
أيضا هناك وقفة مهمة وهي أننا عندما نتحدث عن المكافآت فإننا نعني المعنوية منها كرسائل الشكر، وحفلات التكريم، والكلمة الطيبة والدعاء وقد أشار إليه الحديث الشريف أعلاه، كذلك نعني المكافآت المادية كزيادة الراتب أو الهدايا العينية، أيضا فهناك المكافأة المادية والمعنوية كما في حالة الترقية الوظيفية. وكذلك هو الحال بالنسبة للجزاءات، فمنها المعنوي كالنقل إلى وظيفة غير مرغوبة أو الإنذار الشفوي، ومنها المادي كالخصم من الراتب، ومنها المادي والمعنوي معاً كالفصل من الوظيفة.
أما عن دوافع ومسببات المكافآت والجزاءات فهي عديدة، ومن أمثالها أن تحقق الشركة أرباحا وترغب في توزيع جزء منها على الموظفين لمكافأتهم وإشعارهم بأهمية دورهم، أو قد تكون المؤسسة في وضع مالي مزرٍ فتلجأ إلى الإفراط في الجزاءات من أجل "تطفيش" الموظفين، أو قد ترغب الشركة في المحافظة على كوادرها من أن يتم اقتناصهم من قبل الشركات المنافسة فتراها تقدم لهم المكافآت المجزية، وهناك الحالة الأعم والأوسع التي تنبني عليها دوافع المكافآت والجزاءات وهي مدى التزام الموظف بما تم التعاقد عليه كتابيا أو ضمنيا مع صاحب عمل، وهذه هي النقطة التي ستكون مدخلنا لمعالجة مسألة المكافآت والجزاءات في هذا المقال، علما بأن هناك ثلاث حالات يوصف من خلالها مدى التزام الموظف بما تم التعاقد عليه وهي:
1- حالة الالتزام: وتتمثل في التزام الموظف تماما بما تم الاتفاق عليه بلا زيادة أو نقصان.
2- حالة الإحسان: وهي أن يلتزم الموظف بما تم الاتفاق عليه وأن تكون له أيضا زيادة وإضافة محمودة.
3- حالة الإخلال: وهي التي يخل فيها الموظف بما تم الاتفاق عليه.
أمام هذه الحالات الثلاثة لمدى التزام الموظف بالتعاقد، يتبنى أصحاب الأعمال عادةً إحدى هذه السياسات:
1- سياسة العدل: وهي التي يعطي فيها صاحب العمل الأجرة المتفق عليها للموظف بلا زيادة أونقصان وذلك في حالة "التزام" الموظف، أما في حالة "إحسانه" فيقابله رب العمل بالمكافأة، أما في حالة "إخلاله" فتكون هناك الجزاءات.

2- سياسة الفضل: وهي التي يبدأ فيها صاحب العمل بمكافأة الموظف بمجرد أن يكون في حالة"الالتزام"، كما وتتصاعد المكافأة إذا ما ارتقى الموظف إلى حالة "الإحسان"، وفي هذه السياسة لا تكون الجزاءات إلا إذا وقع الموظف في منطقة "الإخلال".

3- سياسة الجور: وهي التي يُقابل فيها الموظف "الملتزم" أو "المحسن" بالنكران بل والعقاب في بعض الأحيان، بينما يُكافئ فيها الموظف "المُخِلَ"! ولا يستغرب أحد! فهذه السياسة موجودة ومن شواهدها مثلا أن تتم معاقبة موظف لأنه قام بالإبلاغ عن مخالفة إدارية جسيمة أو سرقة قام بها أحد أصحاب النفوذ! أو أن تتم ترقية موظف لانشغاله بكتابة التقارير عن زملاءه وإهماله كل متطلبات وظيفته! والموقف أعلاه بين علاء وموسى مثال على هذه السياسة التي وقعا ضحيةً لها.



إن السياسة المثلى التي أرى أنها أكثر تحقيقا للأهداف الأساسية للمكافآت والجزاءات هي سياسة الفضل التي تعتبر أن مجرد الالتزام بما تم الاتفاق عليه هو فضيلة تستحق المكافأة، وهذه السياسة تقوم على مبادئ حسن الظن الفطن وليس المغفل، وعلى أن الأصل في الإنسان البراءة، وعلى أن النفوس جُبلت على مبادلة الإحسان بالإحسان، كيف لا والله سبحانه وتعالى يقول "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (فصلت -34).
ومن هنا فإن التعامل بسياسة الفضل من قبل رب العمل يحقق أهداف المكافآت والجزاءات في التحفيز لكل سلوك إيجابي، وكبح السلوكيات السلبية، ومراعاة مصلحة العمل والموظف معا، كما ينقل الموظف من منطقة "الالتزام" إلى منطقة "الإحسان". هذا وقد عبر جانت (H. L. Gantt)عن هذا المفهوم لأول مرة أي عن المكافأة في حالة الالتزام بما تم الإتفاق عليه بمصطلح "البونص"“Bonus” وذلك في ديسمبر 1901 في مجلة (American Society of Mechanical Engineering).
ومع استخدام سياسة الفضل هنالك 10 موجهات علمية تجعل من المكافآت والجزاءات أكثر فعَالية وهي:
1- الوضوح والشفافية ومنذ البداية: وذلك في بنود التعاقد التفصيلية ولوائح وسياسات المكافآت والجزاءات وآلياتها وأنواع المخالفات وطبيعة الإنجازات وكيفية التظلم، وذلك كله لكي يعرف كل من الموظف ورب العمل ما ينتظره أحدهما من الآخر، فتستبين الحقوق والواجبات، ويزول الجهل والغرر، ويُعرف بالضبط موعد ومقدار المكافأة، كما لا يُفاجئ موظف بجزاء.
2- التناسب بين الإنجاز والمكافأة وبين المخالفة والجزاء: فلو تخيلنا أن هناك مسطرتان، واحدة للإنجازات والمخالفات والأخرى للمكافآت والجزاءات، فلا بد حينها من أن يكون مؤشر مكافأة الموظف مقابلا لمؤشر إنجازه، ومؤشر جزاءه مقابلا لمؤشر مخالفته، فكم من جزاء مبالغ فيه أدى إلى أضرار بالغة في نفسية الموظف ونتائج العمل، وكم من مكافأة مبالغ فيها أفسدت الموظف دهرا من الزمن ولم تعد تجدي بعدها المكافآت الأخرى معه نفعا، وكم من جزاء بسيط غير رادع ساهم في تكرار المخالفة وبشكل مدمر، وكم من مكافأة متواضعة لإنجاز كبير أسهمت في حرمان المؤسسه من طاقات موظفها ورحيله إلى مؤسسة أخرى تقدر إنجازاته.
3- الغنم بالغرم: وهذه قاعدة شرعية عظيمة فمن كان في موقع وظيفي حساس يُؤاخذ فيه مؤاخذة شديدة على المخالفات أو الأخطاء، كذلك يجب أن يُكافأ مكافأة عظيمة على الإنجاز.
4- تكرار المخالفات أو الإنجازات يصعد من الجزاءات أو المكافآت: فمن تم تنبيهه شفاهة لأول مرة على تقصيره في حق العمل لا بد من أن يوجه له تنبيه كتابي في حال التكرار للمرة الثانية، أو ربما قد يحصل على إنذار أول في حال التكرار للمرة الثالثة. أيضا من تكررت إنجازاته فلا بد من رفع مكافأته في كل مرة عن سابقتها.
5- المكافآت أو الجزاءات يجب أن تكون مثبتة وإيجابية (Positive): ونعني بذلك ألا تكون المكافأة عبارة عن إزالة لأوضاع غير طبيعية أو غير صحية يعيشها الموظف، فإزالة المظلمة مثلاً لا تُعد مكافأة بل هي حق طبيعي يجب أن ينعم به كل إنسان. أيضا الجزاء لا يجب أن يكون ممثلا في الاستمرار بعدم التثبيت أو عدم الترقية فهذا الأمر لا يُشعر به كجزاء من حيث أنه لا يحدث تغيير في حالة الموظف يستدعي تغيير سلوكه. لذا فالمكافآت والجزاءات المثبتة هي التي يتذكرها الموظف وهي التي تحدث الأثر المطلوب منها.
6- مراعاة الفروق الفردية ما أمكن: وذلك راجع لكون الموظفين مختلفين في ردود أفعالهم تجاه نفس النوعية من المكافآت أو الجزاءات، فمنهم من تؤثر فيه كلمة اللوم أكثر من الإنذار المكتوب، ومنهم من يقدر ساعات العمل المرنة أكثر من الزيادة المالية. لذا فإنه في حالة المخالفات أو الإنجازات غير محددة الجزاءات أو المكافآت من قبل، فإنه يجب أن تُراعى الفروق الفردية بين الموظفين قبل تحديد المكافآت والجزاءات أو اختيار توقيت وكيفية إيقاعها وبما يحقق نتائجها المرجوة.
7- إيقاع الجزاء كاملا ومنح المكافأة موزعة: فلو تقرر مثلا إيقاع حزمة من الجزاءات على مخالفة جسيمة لأحد الموظفين فلا يجب بحال من الأحوال ان تتوزع هذه الجزاءات على الأشهر بحيث يبقى الموظف في جو وتحت تأثير العقوبة بما يدمر معنوياته ويشعره بالإحباط، بل الواجب أن تطبق عليه مرة واحدة لتحدث أثرها المطلوب. أما في حالة المكافأة فلو تقرر مثلا منح الموظف مكافأة مقدارها 12 ألف دولار، هنا ينبغي أن تُدفع هذه المكافأة مقسمة على مدى سنة مثلا وبما يحقق استمرار شعور التقدير لهذه المكافأة في كل مرة يستلم الموظف بعضا منها، أما إذا استلمها الموظف مرة واحدة فإنه لن يشعر بذلك التقدير إلا لمرة واحدة وسيزول أثر هذه المكافأة في الشهور القادمة. ولو تأملنا في هذه المنهجية للمكافآت والجزاءات لوجدنا أنها هي ذات المنهجية التي يتعامل بها رب العزة مع عباده، فهم يعيشون أغلب حياتهم في كنف نعمته الغامرة، وإذا ما أصابتهم المصائب بما قدمت أيديهم فلا تكون إلا بمثابة نقاط معزولة في محيطات نعمائه.
8- توافر بيئة العمل المساعدة على الالتزام والإحسان وعدم الإخلال: إذ أن الكثير من تقصير الموظفين يعود إما إلى مدراء غير ممكنين، أو سياسات قاصرة، أو بيئة عمل مكبِلة.
9- المكافآت والجزاءات لا تكون إلا بعد تقييم علمي للأداء: وسواءً أكان هذا التقييم تقييما دوريا أو تقييما آنيا استدعته الحاجة فالواجب أن يتم إجراؤه بشكل علمي من قبل جهة محايدة لا تنتفع شخصيا بمكافأة الموظف أو جزاءه، ولا بد من أن تكون هذه الجهة مختصة لضمان موضوعية وصحة المكافأة أو الجزاء.
10- ضابطان مهمان للمكافآت والجزاءات المالية: الضابط الأول وهو ضرورة وجود موازنة مالية مخصصة ومحددة من قبل وكافية للتعامل مع مسألة مكافآت الموظفين بما يشيع ثقافة الاحتفال بالإنجازات وتكريم المتميزين في المؤسسة. أما الضابط الثاني فهو ضرورة أن يتم تحويل أموال الجزاءات المالية المخصومة من رواتب الموظفين إلى صندوق خاص يعود ريعه على الموظفين أنفسهم كأن يخصص جزء منه لحالات التكافل مع بعض الحالات الصعبة للموظفين، وذلك حتى لا يشعر الموظف بأن الانتقام والاستيلاء على مستحقاته لصالح الشركة كانا الهدف من وراء الجزاء المالي.
ومسك الختام
أن ما مارسته هذه الشركة من ترصد مع موسى ربما لن يجعله يتأخر عن عمله مرةً أخرى، ولكنه على الأرجح لن يكون منتجا كما كان من قبل، فالمؤسسات وإن استطاعت أن تلزم موظفيها بعدد ساعات محددة للدوام فإنه يصعب عليها أن تتحكم بجودة ونوعية هذه الساعات المقدمة من قبل الموظف، أيضا فإن النكران المزمن الذي عانى منه علاء حطم معنوياته ومنع الشركة من الاستفادة من طاقاته، وجعل سببه الوحيد للبقاء مع هذه الشركة هو عدم وجود فرصة عمل أخرى خارجها!
إن سياسة الجور، والاحتقان الذي تولده، وتراكم الكراهية والحقد في النفوس هو أسرع وصفة لانهيار الأمم والمؤسسات، في حين أن سياسة الفضل أو العدل على أقل تقدير هي الطريق الأمثل للنمو والتقدم والازدهار، فهل من متعظ؟