[SIZE=أكاديمي]إقرأ صغيرا.. تنهض كبيرا الشبيبة بين العزوف عن القراءة وتنشيطها .. ؟؟



أبدأ بحكاية من عالم الواقع عن طفلة اسمها هناء على اسم جدتها، عمرها ثلاث سنوات، تحب زيارة جدتها بدرجة تلفت النظر، وأكثر ما تستمتع به أن تضطجع إلى جانبها في الفراش قبل النوم، فمنذ بدأت تثغو اشترت جدتها عددا من الكتب المصورة لصغار الأطفال، وكلما زارتها حفيدتها لأيام معدودات جلست معها بين الحين والحين-وعلى جميع الأحوال قبل النوم- لتقلب معها صفحات الكتيبات الصغيرة، وتعرض عليها الصور، وتحكي لها عن كل صورة حكايتها بأسلوب مبسط، وتعلّمها أسماء ما تراه مصوّرا من حيوانات وزهور وسواها، وكم كان يفاجئها ويسعدها أن حفيدتها أصبحت تأتي بنفسها بأحد الكتيبات، وتقول إنها تريد أن تقرأ في هذا الكتاب الآن، وهي تذكر بعض ما فيه مما انطبع في ذاكرتها الصغيرة، رغم أن كلماتها متلعثمة مبعثرة على قدر سنها، فلا يكاد يفهمها سوى الأقربين لها. وذات يوم أرادت الجدة شراء مزيد من الكتيبات، ولم تجد في المتجر شيئا مناسبا، ولكن استحيت من كثرة ما قلّبت ما عرض صاحبه عليها، فاقتنت كتيّبا سُجّل عليه أنه للصغار ما بين 5 و6 سنوات، وفي الزيارة التالية لاحظت هناء الصغيرة وجود الكتيب الجديد، فطلبت من جدتها أن تقرأ فيه، وفوجئت الجدة في الزيارات التالية كيف أصبحت الصغيرة تفهم ما في ذلك الكتيب وتردده، بما في ذلك بعض مسائل الجمع والطرح للأطفال الأكبر سنا.

[/SIZE]

مستقبل حالك السواد


يكتب كثيرون ويتحدثون عن تلك الظاهرة المعروفة بصدد عزوف ناشئتنا وشبابنا عن القراءة، ومعظم ما يقال حافل باللوم الموجّه مباشرة أو إيحاءً إلى الناشئة والشباب:
علام يعبثون ولا يقرؤون؟.. علام يقبلون على أسباب التسلية واللهو ولا يقبلون على أسباب العلم والمعرفة؟..
مشكلة العزوف عن القراءة قائمة ولكنها ليست مشكلة عويصة مستعصية في الأصل، ولكن يغيب عن أذهاننا ونحن نتأمل أبعاد المشكلة في عمر الشبيبة وما بعده، أن بداياتها كامنة في سن الطفولة الأولى، كما يغيب عن أذهاننا أن الإقبال على القراءة من الصفات "المكتسبة" وليست صفة ولادية، وتعني كلمة "مكتسبة" هنا، أنها تتحقق بمقدار الجهد المبذول لاكتسابها، وتضمر بمقدار الامتناع عن بذله. فكما يحتاج الطفل إلى التدريب على المشي، وتناول الطعام والشراب، وارتداء الملابس، إلى أن يتقن ذلك شيئا فشيئا فيصبح جزءا مما يعتاده في حياته اليومية، كذلك يحتاج إلى التدريب على القراءة حتى يتقنها وتصبح جزءا مما يعتاده في حياته اليومية.
علام لا نتساءل: هل ولد الناشئة والشباب في البلدان التي ترتفع نسبة القراءة فيها، وهم يقرؤون ويكتبون، أم نشؤوا على ذلك من خلال ما يوجده المجتمع حولهم من معطيات ودوافع وحوافز ومسابقات وجوائز وتوجيه وتدريب؟..
الجواب معروف ويفرض الامتناعَ عن محاولة المعالجة بأسلوب توجيه اللوم للشبيبة، ولا يعني هذا إسقاط قسطهم من المسؤولية الذاتية، بل أن ندرك جميعا أن ظاهرة العزوف عن القراءة لن تضمحل إلا بجهود متكاملة، منطلقها الأول هو تعويد أطفالنا على القراءة من السنين الأولى لتفتُّح أذهانهم الصغيرة على الحياة من حولهم.
وإذا كانت هذه من مهمات الآباء والأمهات والأجداد والجدات في البيوت، فهم الأقدر على الشروع في النهوض بها، والأولى بذلك، ولكن دون أن ينتشر الاعتقاد الخاطئ بأنها مهمتهم وحدهم، فليس قصورهم وحده هو السبب من وراء انتشار هذه الظاهرة التي تستحق وصفها بأنها حالكة السواد، بحكم سواد آفاق المستقبل الذي تنذر به إن بقينا مكتوفي الأيدي وهي تتفاقم وتفعل فعلها في واقع المجتم.

مقولات ضبابية عن ظاهرة خطيرة
مشاهد أخرى ذات علاقة بظاهرة العزوف عن القراءة وهي من الواقع حولنا أيضا.. تزامن المشهد الأول منها مع المشاركة العربية المميزة (ضيف الشرف) في معرض الكتاب الدولي في فرانكفورت قبل سنوات، وكان مما اطلعت عليه من مقالات آنذاك مقال زعم كاتبه فيه -وهو من العرب العلمانيين المغتربين- أن العرب أمة لا يقرؤون لأن نبيهم (صلى الله عليه وسلم) وصفهم بالأميين.. وقال آخر في مقابلة صحفية إن الحد الأعلى لعدد النسخ المطبوعة من كتاب جديد دون 3 آلاف في أمة يناهز تعدادها 300 ملايين، واستغربت قوله هذا، فقبل فترة وجيزة كنت قد سمعت بعض ما قيل على هامش إحدى دورات معرض الكتب في القاهرة -وهو قول متكرر مع كل دورة في القاهرة وسواها- ومؤداه أنه لا مجال للمقارنة بين ما يطبع مرارا ويباع وينتشر من "كتب التراث" والكتب ذات التوجه الإسلامي، وسواها أي كتب الأفكار الحداثية والعلمانية وما شابه ذلك.. ولهذا ذكّرني قوله برواية عنوانها "أعشاب البحر" لكاتب سوري، وكانت شاذة الصياغة والمضمون وبقيت 15 سنة بعد ظهورها لا يكاد يلتفت أحد إليها، حتى أُحدثت ضجة احتجاجية في مصر بسبب مضمونها فاشتهرت فجأة، وكأن الحملة عليها صارت حملة دعائية للاطلاع عليها، والشاهد هنا أنه تبيّن في حينه أنه رغم كسادها لمدة 15 عاما، طبعتها وزارة الثقافة المصرية ونشرتها، وكان عدد النسخ المطبوعة 2000 نسخة قبل عامين من إثارة الضجة عليها، وبقي منها كاسدا لدى الوزارة 500 نسخة.
فمع الإقرار بأن ظاهرة العزوف عن القراءة موجودة ومستفحلة وواسعة الانتشار، وبصدد انخفاض نسبة ما ينشر من كتب الحديثة وانخفاض عدد النسخ المطبوعة والمباعة، بالمقارنة مع مختلف بقاع العالم، يبدو من المثال المذكور أن الشكوى تتركز على العزوف عن نوعية معينة من الكتب والمنشورات، تجد الرواج بين فئة محدودة العدد، ولا تجد الرواج جماهيريا، وهنا يجب التساؤل عن حقيقة العلاقة السببية بين الحرص على نشرها ودعمها من جانب صانع القرار الثقافي والسياسي رغم عدم الإقبال عليها، بدلا من الشكوى من العزوف عن القراءة!
بتعبير آخر:
ألا ينبغي بدلا من توجيه اللوم إلى الشبيبة والناشئة أن نتساءل عن فحوى ما تقدّمه الأقلام إليهم وما إذا كان جوهر المشكلة كامنا في قلم الكاتب وليس في عين القارئ.. وفي "استعلاء البرج العاجي" متشبثا ببعض الانحرافات، وليس في "طيش الشباب" ونزوة الإقبال على المثير وإن كان فارغا ثقافيا.. هذا علاوة على أن جوهر المشكلة كامن من قبل ومن بعد في أجواء القهر الفكري والثقافي على تبني توجّهات معينة وليس في الامتناع الأشبه بالعصيان المدني على ذلك القهر؟..
وآمل ألا يوحي ذكر المشاهد والتساؤلات السابقة أن صاحب هذا القلم يدعو إلى التقوقع الفكري في إطار اتجاه ما وإن كان الاتجاه الإسلامي الذي يراه ويدعو إليه، بل المرجو ثقافيا وفكريا لشبابنا وفتياتنا، ولنا جميعا صغارا وكبارا، هو التعرف على كافة التصورات، والانفتاح على مختلف الأفكار، ولكن مع تنمية المعايير الذاتية للتقويم، فهي عماد الشخصية المستقلة، وبالتالي اكتساب القدرة للقبول والرفض وفق الاقتناعات الذاتية، وذاك جوهر الحرية.



معضلة مركّبة متعددة الوجوه
إذ ورد التنويه كيف يجري الترويج لتأويل أسباب الظاهرة بأننا "أمّيون" لأننا "مسلمون" تحسن الإشارة إلى جانب آخر من المشاهد في واقعنا..
نحن نعلم أن التذكير في موعظة أو مقالة أو مؤتمر أو خطبة لا ينقطع بشأن ما ورد في الإسلام الحنيف عن الكلمة وقيمتها ومفعولها، بدءا بآياتٍ ترشد إلى القراءة والعلم، من قبيل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} - العلق:1- مرورا بآيات تبين الحصيلة وأهميتها، من قبيل {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} -فاطر: 28-، انتهاء بآيات تنذر بالعاقبة الوخيمة من قبيل {كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} -الروم: 59- ويمكن تعداد المزيد وكذلك الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة على هذا الصعيد.. ولكن:
نرصد هذا التذكير المتكرر ونرصد أيضا عدم انعكاس مفعوله بما فيه الكفاية على أرض الواقع، ومرة أخرى يتجه لوم اللائمين -في هذه الحالة من الأوساط الإسلامية- إلى مَن لا تفيد الموعظة معهم من جيل الشبيبة، وليس إلى السؤال ما إذا كان أسلوب تقديمها أو توقيته أو مضمونه يحمل في طياته سبب إخفاقها في الوصول إلى القلوب والعقول والممارسات العملية.
إننا -جميعا- نواجه ظاهرة أشبه بمفعول حافرة لولبية المسننات، ومع كل دورة من دوراتها يزداد عمق الهوة التي نشكو منها، وما نزال نتابع الحفر رغم رؤية النتيجة..
أو هي معضلة مركّبة، تتفاقم عبر تقديم ما لا يصلح من حلول، ثم الشكوى من غياب النتيجة، وتكرار تقديم الحلول ذاتها، ليزيد تراكم ما نشكو منه بدلا من إزالته!..
والجدير بالاهتمام ضرورة عدم حصر مشكلة "العزوف عن القراءة" في النطاق الشكلية الذي تحدده هذه الكلمات وحدها، فنلاحظ (1) أن المشكلة موضوع الحديث ليست مشكلة ثقافة إسلامية مفتقدة فقط، كما أنها (2) ليست مشكلة عدم القراءة لأي كتاب بأي مضمون فحسب، ولا يكفي للتعبير عنها (3) الحديث عن انتشار الأميّة على صعيد الكتابة والقراءة..
إن كلمة "القراءة" المقصودة في هذا الموضوع مجازية للتعبير عما يشمل مع مسيرة التقدم الحديث كل ميدان من الميادين وأسلوب من الأساليب للحصول على المعلومات، والاطلاع على الآراء والأفكار، واكتساب مختلف المهارات اليدوية والتقنية، والارتقاء إلى مستوى القدرة الذاتية على صعيد ما يعرف بعملية "التفكيك والربط والتحليل" أساسا للتعامل الهادف مع أجزاء مسألة من المسائل، للوصول إلى طرح موضوعي لحل مشكلة، أو ابتكار تقنية تضيف جديدا، أو تقويم أمر أو قضية بما يدفع ضررا ويجلب فائدة.
إن
العزوف عن القراءة بهذا المعنى الشامل المتعدد المستويات والميادين، يعني أننا أمام مشكلة متفاقمة على صعيد الأميّة كتابة وقراءة، والأمية علما وتقنية، والأمية بحثا ودراسة، والأمية الشبكية والألكترونية، وغير ذلك مما نحتاج إلى التمعن فيه وفي السبل الفعالة لمواجعته لشق طريق النهوض والتقدم من جديد.
إننا نواجه معضلة مركبة متعددة الوجوه وليس مسألة جانبية ترتبط بجانب ثانوي من جوانب "الترف الثقافي"، وهي معضلة تمس جوهر قضية القضايا فيما نطرحه حول أسباب التخلف ومتطلبات النهوض، وحول التأخر والتقدم، والفوضى والاستقرار، والضياع والهداية.


مكافحة العزوف عن القراءة
من الأخطاء الجسيمة التسليم لمقولة شائعة تزعم أن المجتمع المتقدم يؤمّن أسباب الإقبال على القراءة بمعناها الشامل المذكور وأن المجتمع المتخلف يسدّ مقدّما الأبواب دونها.. فبهذه المقولة -إلى جانب أننا ننسب مجتمعاتنا بحق إلى أوضاع التخلف- كأننا نقول لأنفسنا: هذه مشكلة مزمنة لا حل لها.. فسنبقى متخلفين على الدوام!.. وهذا تصوّر لا يجوز التسليم به بأي حال!.
إن كان الفارق المذكور بين معطيات متوافرة في المجتمعات المتقدمة دون المتخلفة صحيحا فهو يمثل عاملا من العوامل فقط، والأهم بالنسبة إلينا وانطلاقا من واقعنا هو الانتباه إلى الوجه الآخر من الميدالية، وهو أن الاستفادة من المعطيات الأولية المتوافرة في كل مجتمع متخلّف، وإن كانت قليلة، تؤدّي إلى تقدمه، وأن عدم الاستفادة منها تؤدي إلى ازدياده تخلفا.
ولكن هل لدينا في المجتمعات المتخلف معطيات يمكن الانطلاق منها أصلا للخروج من ظاهرة العزوف عن القراءة بمعنى الكلمة الشامل؟..
نعود للتأمل في نقطة الانطلاق في هذه الظاهرة وسنجد معطيات أساسية مرتبطة بها، وهي متوافرة عند كل إنسان فرد وفي كل مجتمع عموما، وتمكّن من مواجهة المشكلة وحلها، ويبقى ما سواها من قبيل "العوامل الإضافية المساعدة"، وكثير منها قابل لإيجاده إن لم يكن موجودا من الأصل.
بشيء من التبسيط كيلا نطيل بالاسترسال يمكن تحديد مرتكزات الإقبال على القراءة بالمعنى الشامل المشار إليه في ثلاثة عناوين: (1) حب الاستطلاع دافعا، و(2) استخدام العقل أداة، و(3) تحسين البيئة وعاءً وميدانا.
ونلاحظ أن المرتكزين الأول والثاني متوافران أصلا، فلا ينبغي أن نقضي عليهما بأنفسنا، وأن الجهد الإضافي المطلوب مطلوب في نطاق المرتكز الثالث في الدرجة الأولى.
حب الاستطلاع جزء ثابت من فطرة الإنسان التي فطره الخالق عليها، وهي ما نرصده من سنّ الطفولة حتى الشيخوخة.. والإنسان بعد ذلك مسؤول عن تنميتها وتوجيهها والاستجابة الواعية لها، أو خنقها والانحراف بها واغتيالها.
والعقل نعمة من الرحمن ميز بها جنس الإنسان عن سواه وعلى سواه من المخلوقات.. والإنسان بعد ذلك مسؤول عن استعماله وتوجيهه ما بين ثنائيات الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، وكذلك التقدم والتخلف، والبناء والهدم، والنهوض والسقوط.. أي في جميع الميادين التي أراد الله تعالى أن تكون منوطة بالإرادة البشرية، فللإنسان فيها الخيرة من أمره وعليه من بعدُ الحساب على حسب سعيه.
أما البيئة المقصودة كوعاء وميدان للقراءة -بمعنى طلب العلم والمعرفة عموما- فهي (1) تلك التي تحيط بالطفل والناشئ أولا، وهنا يحمل المسؤولية عنها الأقربون إليه، ثم هي (2) البيئة التي تحيط بالإنسان في مرحلة الشبيبة وما بعدها، وهنا يصبح الشاب الفرد نفسه شريكا في حمل المسؤولية مع الأقربين، ومع المجتمع من حوله.
إن المسؤولية في التعامل مع العناصر الثلاثة المذكورة ليست كلمة ضبابية المعنى، هلامية المضمون، بل لعل كثرة التعميم في الحديث عن مسؤولياتنا مع الميل إلى أسلوب تدافع المسؤولية بدلا من استشعارها والشروع المباشر في النهوض بالقسط الواقع منها على المتكلم عنها، هو أحد الأسباب الرئيسية من وراء القصور عن القيام بما تقتضيه مسؤولياتنا في مواجهة مختلف المظاهر والظواهر السلبية في حياتنا، ومن بينها ما انتشر وصفه بظاهرة العزوف عن القراءة.
وإننا لننطلق من المسؤولية الفردية كما ثبتها العديد من النصوص الشرعية كقوله تعالى: { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} -مريم: 95- ونضعها إطارا لما نستخلصه من مجموع ما سبق، للقول بإيجاز شديد:
1- الحكومات بأجهزتها وبإمكاناتها مسؤولة أولا عن التخطيط والتنفيذ لبرامج مدروسة هادفة في مواجهة ظاهرة العزوف عن القراءة، وهذا ما يستدعي مثلا -للتوضيح وليس للحصر- تقويم ما يتعلق بمادة "القراءة" في المناهج المدرسية، بحيث تنطوي على معناها الشامل في طلب المعرفة كما سبقت الإشارة، وتشمل تنمية القدرة الفردية من السنوات الأولى على الممارسة، مع تخليص مادة القراءة (وسواها من المواد المدرسية) من مفعول الربط "الحصري الخاطئ.. أو الناقص" بين: (1) تحصيل المعلومة في الدراسة فهو هدف أساسي لا ينقضي بعد الدراسة وهذا في مقدمة ما يجب أن يصبح بدهية عند كل طالب وطالبة، و(2) تحصيل "العلامة" للشهادة.. فهذا هدف مرحلي محصور بسنوات الدراسة فقط.
2- لا يوجد ما يعفي الحكومات من مسؤوليتها الشامل -عدا المناهج المدرسية- لكافة المناهج الأخرى لتحصيل المعلومة وتنمية الفكر وتطوير الموهبة، ولا يوجد ما يستدعي الكف عن مطالبة الحكومات -بمختلف السبل والوسائل وفي مختلف الأوقات- أن تؤدي مسؤولياتها حق الأداء.
3- إنما لا يلغي ذلك مسؤوليةَ العاملين والناشطين في الجماعات والأحزاب والروابط والمواقع الشبكية والمعاهد ورياض الأطفال والمدارس ووسائل الإعلام وغيرها من المؤسسات والأجهزة، أن يبتكروا -رغم مختلف الظروف المعيقة القائمة- صيغا مدروسة عملية، تتناسب مع إمكاناتهم الفعلية من جهة، وتتلاءم من جهة أخرى (1) مع ضرورة التعويض عن النقص الكبير الذي تحمل الحكومات المسؤولية الأولى عنه، وكذلك (2) التعويض عما لم تصنعه تلك الجهات غير الحكومية من قبل، رغم أنه يقع في نطاق مسؤولياتها المباشرة، من أنشطة وفعاليات متواصلة ومتكاملة مع بعضها بعضا، ليكون هدف التعويد على القراءة -بمعناها الواسع المذكور- (1) هدفا خاصا بكل جهة على حدة، له مكانة متقدمة في برامج عملها في أي وقت وأي ميدان، و(2) هدفا مشتركا للتعاون فيما يمكن التعاون فيه.
4- وستبقى من قبل ذلك ومن بعده مسؤولية "الأقربين" من عامة الأفراد مسؤولية كبيرة، وهم آباء وأمهات، وأجداد وجدات، وإخوة وأخوات أكبر سنا، تجاه الأطفال في نشأتهم الأولى، وتجاه الناشئة في سنوات وعيهم الأولى على الحياة من حولهم، ولا يمكن أن يعوض النقص هنا أيُّ جهد آخر خارج نطاق الأسرة، كما أن أداء هذه المسؤولية لا يحقق هدف "التعويد على القراءة" فحسب، بل يشمل في الوقت نفسه -وهذا أمر بالغ الأهمية-تنشئة جيل قادم، يعي أبعاد المشكلة عمليا، فيتعامل معها ومع أمثالها على نحو آخر، عندما يصل إلى مواضع المسؤولية عن عمل اجتماعي وسياسي وثقافي أوسع نطاقا، في مكونات المجتمع الأهلي ومكوّنات الدولة، فيتبع أساليب أخرى غير أساليب الجيل الذي سبقه وأوجد مثل هذه المشكلات، كما يستشعر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه على طريق النهوض والتقدم، استشعارا أكبر مما يصنع جيلنا الآن.. ربما متأخرا، وربما بأسلوب لا يحل المشكلة إذا ما استمر الحديث الوافر عنها، والامتناع غالبا عن سلوك سبل عملية في مواجهتها.