العلاقة بين القدرات الإبداعية غير المحددة والصحة العقلية

العديد من الأشخاص المبدعين لا يدركون أنهم كذلك، إن عدم القدرة على التعرف على الأفراد الذين يمتلكون قدرات إبداعية عالية قد تعرضهم إلى العديد من المخاطر والمصاعب في مختلف قطاعات الحياة، فبعيداً عن التدريب المناسب والاستراتيجيات التفاعلية ستستمر مشاكلهم بالتصاعد على المدى الطويل.

لماذا يبقى الكثير من الأفراد المبدعين غير معروفين ويعانون في مجتمعاتنا؟
أحد الأسباب هو النظرية الخاطئة في تعريف الإبداع بالدرجة الأولى. غالباً ما نربط بين الإبداع والفعاليات الفنية الواضحة مثل الرسم، والعزف على البيانو . إلا أن هذا النموذج يُخطئ الجذور الحقيقية للإبداع.

الإبداع ينشأ من طريقة امتصاص المعلومات والتجارب ومعالجتها . من هذه المعالجة تولد الأفكار الجديدة ، والابتكارات، والأعمال والمنتجات الفنية.

وجهة النظر هذه تعرب عن وجود قدرات خام يمكن أن تُحدد بشكل واضح وتتواجد بشكل مستقل في أي فرع من فروع الأعمال والتجارة. يمكن أن توجه المقدرات باتجاه إتمام العديد من المحاولات في حقول طالما اعتبرت بعيدة عن الإبداع.

القدرات الإبداعية الخمس الهامة هي:
تدفق الأفكار: تدفق طبيعي وسريع للأفكار
تفكير متشعب: ميل طبيعي للتفكير المتشعب والمتزامن (يستخدم بالإضافة إلى التفكير الخطي)
مهارات الأحاسيس الدقيقة: في واحدة أو أكثر من الحواس الخمس (غالباً ما تعرض في معرض الحساسية للضوء والصوت والصور الضوئية).
مقدرات حدسية عالية: الخبرة في "معرفة" أن شيئاً ما صحيح, ويثبت أنه صحيح تماماً دون الاعتماد على معلومات ملموسة.
ذكاء عاطفي عالي المستوى: شعور دقيق بمشاعر الآخرين أثناء الحدث، والقدرة على فهم وإدراك عواطف الآخرين.

عندما تصبح المقدرات عوائق:
يتأتى العبء الذي تسببه القدرات الإبداعية من حقيقة أنه لا يمكن إيقافها. على سبيل المثال: مقدرات الإدراك تعمل بشكل دائم سواء كان هذا عن شعور منك أو عن عدم شعور. تصبح القدرات الإبداعية عبئاً عندما لا يتم تمييزها وحمايتها ولا يتوفر لها مخرج مناسب مباشرة. هذه الظاهرة يمكن أن نقول أنها تجربة "سيف ذو حدين" لامتلاك قدرات إبداعية في الدرجة الأولى.
قد يلاحظ أكثر الأفراد المبدعين أنهم يعانون من التعب والقلق أو القهر، إلا أنهم لا يفهمون سبب شعورهم هذا. قد يفشلون في فهم حقيقة أن الميل إلى تشرّب الأمر المثير "كالإسفنج" يجعلهم عرضة لـ "الحمل الزائد" من حيث الشعور والمعلومات .

ربما يعزون الأعراض التي يعانون منها إلى الحالة الخطأ، بسبب غياب معلومات صحيحة حول مقدراتهم. إن تعابير مثل: "أنا حساس جداً"، "أنا مثالي"و "أنا أفكر كثيراً" هي نتائج، و غالباً ما تكون غير صحيحة، يتوصل إليها الكثير من المبدعون حول ذواتهم عندما لا يتفهمون مقدراتهم بشكل واضح.

قد تصبح القدرات الإبداعية عبئا عندما لا يتم تمييزها
وحمايتها ولا يتوفر لها مخرج مناسب مباشرة

هذه الأنواع من الأوصاف السلبية وغير الدقيقة يمكن أن تلحق ضرراً بالغاً بالصورة الذاتية. المحاولات التي تبذل لتصحيح مشكلة انطلاقاً من هذه النقطة الأساسية غالباً ما تكون فاشلة، لأن التفسير الأولي كان خاطئاً. ومع مرور الزمن يصبح لوم الذات والمقاربة غير المناسبة لحل المشكلة سبباً في تحول العديد من ألمع وأكثر الأفراد إبداعاً إلى حياة هامشية كشبان، لا يجدون عملاً كافياً لمقدراتهم، غير راضين عن الحياة التي يعيشونها، وغالباً في معاناة كبيرة من الآلام النفسية.

الكثيرون ممن يتمتعون بمقدرات إبداعية عالية المستوى معرضون لخطر التشخيص الخاطئ للصحة العقلية عندما يبقى طبيبهم أو المعالج القائم عليهم جاهلاً باحتياجاتهم ومقدراتهم الخاصة. بعض من التشخيصات الشائعة: اضطرابات في المزاج (فوضى، اكتئاب، انتقال مفاجئ من حالة السرور إلى حالة الحزن)، العصاب الحصري، الوسواس القهري، اضطراب: فرط النشاط ونقص الانتباه adhd، واضطراب القلق الاجتماعي sad.

إذا كان التشخيص غير صحيح، فلا ريب أن المعالجة ستسير بالطريق الخاطئ أيضاً. على سبيل المثال: عندما يفشل التشخيص في إدراك أن الأفراد المبدعين يصابون بالاكتئاب عندما لا يجدون مخرجاً يفرغون فيه التدفق السريع للأفكار الذي يتميزون به، فإن هذا غالباً ما ينتهي بوصفات للأدوية المضادة للاكتئاب عوضاً عن إيجاد الحل الحقيقي للمشكلة الأساسية: مخارج مناسبة (مشاريع وأفراد) لتفكيرهم الإبداعي.

بالطبع، قد يمتلك البعض مستويات عالية من الإبداع مع اعتلال في الصحة العقلية. بهذه الحالة، يكون من الضروري الانتباه إلى تحديد كل مكون من مكونات الموضوع ووضعه في مساره الصحيح لكي نضمن فعالية العلاج.

غالباً ما يتماشى المبدعون مع مجموعتين من المشكلات: مشكلات الحياة اليومية، والمشكلات التي تنشأ عن قدراتهم الإبداعية غير المحددة. إن الفشل في معرفة هذه الحقيقة يمكن أن يقود إلى أن يتلقى الطلاب مقاربات تعليمية غير مناسبة في المدرسة (غالباً بسبب انعدام التوافق ما بين أساليب التدريس والتعلّم)، و يبقى الشبان يعملون في مهن ويرتبطون بعلاقات لا تتناسب مع قدراتهم في الوقت الذي يستمرون فيه بإلقاء اللوم على "ضعفهم" لفشلهم في التعاطي مع الأمور.

عبور الجسر من الشدة نحو النجاح:
في سبيل منع بقاء المبدعين في حيّز القلق، لابد من اتخاذ إجراءات معينة:
1. الاحتفاظ بتشخيص مشكلة معينة إلى حين إجراء تقييم دقيق وشامل للفرد وبيئته التي يعيش فيها. يجب أن يكون كل من يعمل في حقل الصحة النفسية والبرامج الثقافية والمساعدات المهنية مطلعاً على الصلة بين القدرات الإبداعية غير المحددة وظهور بعض الصعوبات النفسية والمهنية والعلاقات الشخصية.
2. ليكن لديك الإدراك بأن الذكاء الإبداعي غالباً ما يكون مختفياً تحت مشكلة يسهل إدراكهافي الحياة اليومية. تفهم أن "المشكلة" قد تكون تناذراً لشيء آخر : مقدرة خام مختفية تحت السطح (مثل لؤلؤة داخل الصدفة). على سبيل المثال الحساسية للأضواء الساطعة، للضجيج أو أمزجة الآخرين "مشكلة" قد تشير إلى وجود قدرات إدراك قوية.
3. عندما يتم تحديد القدرات الإبداعية، قرر ما إذا كانت تسبب أي مضاعفات في الحياة اليومية. على سبيل المثال الشعور بأن هناك بعض الأفراد فقط يفهمون، يمكن أن يؤدي إلى الانعزالية والشعور بـ "الاختلاف" عن الآخرين. تحديد المشكلة هنا ضروري لتحقيق تفسير صحيح لمصاعب الفرد.
4. طوّر فهماً دقيقاً للقدرات الإبداعية وحدد كيف يمكن استخدامها بطريقة مفيدة وذات مغزى. على سبيل المثال: قد تمتلك مقدرات إدراك عالية، قد تكون بارزاً في التصميم الغرافيكي، والأبحاث العلمية ، أو حقول أخرى تتطلب انتباهاً شديداً ودقة ملاحظة.
5. حدد المهارات التي يمكن أن تحمي القدرات الإبداعية من اعتداءات مشاكل الحياة اليومية (حتى لا تصبح القدرات عوائق). استخدم التأمل لمواجهة تأثيرات "الحمل الزائد"، أو للتخلص من ضغط البيئة لتعويض نماذج الأفكار المعقدة التي تمتلكها بشكل طبيعي.
6. أعد تشكيل العبارات السلبية لوضع الأوصاف الأكثر دقة. على سبيل المثال: عبارة: "أنا حساس جداً" يمكن أن تصبح "أنا ماهر جداً في ملاحظة الأشياء المحيطة بي، أنا إنسان قوي الملاحظة"؛ وعبارة "أنا مثالي جداً" يمكن أن تصبح "أنا قادر على رؤية الأشياء كما يجب أن تكون، يمكنني أن أتخيل الوضع المثالي وأعمل باتجاهه". ويمكن أن تستبدل جملة "أنا حساس جداً "بعبارة "يمكنني الشعور بأحاسيسي وأحاسيس الآخرين بعمق، أنا إنسان عاطفي".

عملية إعادة التشكيل هذه قد تقود إلى أن يدرك الإنسان أن ما يعتقده نقاط ضعف، هي في الواقع مواطن قوة. إن امتلاك معرفة دقيقة للذات يمكن أن تقود إلى عملية تحول يستطيع الإنسان معها أن يعيش بفضاء إبداعه بشكل كامل. الثقة التي تنشأ عن هذه التجربة قد تجعل من الممكن إخراج إبداع أحدهم إلى العالم الخارجي بطريقة كانت مستحيلة فيما سبق.