مع ما يجري من تراجع اقتصادي عالمي و مؤشراتٍ على تكرار ما يشبه الكساد العظيم في ثلاثينات القرن العشرين فإنّ معظم التوقّعات ترتدي لون الخسائر الأحمر.

و لكن في هذا الوقت ينبغي الانتباه إلى ما ينادي به البروفيسور ميكاييل بورتر من جامعة هارفارد أحد أبرز المفكّرين المؤثرين في موضوع الإستراتيجية التنافسية.

إنّه يدعو إلى التميّز differentiation. إنه يعتقد بأن هذه الفترة من الاضطراب الاقتصادي هي فترة نضج التراكمات السابقة والارتكاز على ذروةٍ تنحدر نحو تحوّلٍ سريع واسع و عميق يمكن أن يكون إيجابياً إذا أحسنت الشركات استخدام الاستراتيجيات الملائمة.

"في أوقاتٍ كهذه تنجز النجاحات التنافسية الهائلة. في أوقاتٍ كهذه تغيّر الشركات مواقعها في السوق، في أوقاتٍ كهذه يصبح القادة تابعين و يصبح التابعون قادة. إنها فترةٌ سينفتح فيها كلّ شيء و تنحلّ الترتيبات القديمة" .

تعريف الإستراتيجيّة مجدّداً:

في أوقات كهذه يشدّد بورتر على أهميّة الإستراتيجيّة. بما أن الإستراتيجية تتمحور غالباً حول اكتساب عائدٍ أكبر على المدى الطويل فإنّها إذاً تتمحور حول تحديد احتياجات السوق التي ينبغي على شركتك العمل لتلبيتها و التي تختلف عن الاحتياجات التي يسعى لتلبيتها المنافسون.

إن الغلطة الأشنع في الإستراتيجية –و خصوصاً في أوقات التراجع الاقتصادي- هي الدخول في الصراع ضد منافسيك على المطلب ذاته.

إذا أردت النجاح يجب عليك إيجاد نوعٍ آخر من القيمة يمكنك تقديمه لشريحةٍ أخرى من العملاء، جوهر الإستراتيجية هو كيفية التمكّن من تقديم قيمةٍ فريدة.

و يرى بورتر بأنه لا وقت أكثر ملائمةً من الوقت الحالي للإصغاء لنصيحته و السعي إلى تمييز شركتك عن المنافسة و تحقيق الازدهار.

"في زمن التراجع الاقتصاديّ أكثر من الأوقات العاديّة، يجب عليك أن تكون أكثر وضوحاً في شأن إستراتيجيتك. في زمنٍ ينمو فيه كلُّ شيء يمكن للكثير من الشركات أن تنجح، و لكن في أوقات الشدّة فإن الشركات الرابحة هي الشركات الأشدُّ وضوحاً في تحديد هويتها و تحديد أساليبها المتبعة لتوليد القيمة المطلوبة.

في زمن التراجع الاقتصادي يصبح الخلل أو الغموض في تحديد القطاع الذي تريد خدمته كارثةٍ قاضية.

و يحذّر بورتر "إن على الشركات ألاّ تفرط في التفاعل مع الظروف الاستثنائية للتراجع الاقتصادي، و ألاّ تغيّر إستراتيجيّتها كلّها أو تخرجَ عنها في سبيل شريحة العملاء الحاليين الذين لا يشترون منها في هذه الفترة. إن الإستراتيجية السليمة بحاجةٍ للاحتضان أعواماً حتّى تعطي ثمارها حقاً".

مشاهدة الصورة الكاملة:

الزلّة الأخرى التي يدعو بورتر إلى اتقائها هي ما يدعوه "بمفارقة التراجع الاقتصادي paradox of economic downturns".

كلّ أنواع الضغوط تدفع الشركات نحو القيام بأيّ شيءٍ في الوقت الراهن للمحافظة على بقائها. و ما وجدناه في كلّ الأمثلة والأحوال هو أنه لكي تستديم بقاء شركتك يجب أن تتوفّر لديك مقدرة المكاملة بين المنظورين القريب و البعيد و التفكير بهما معاً.

لا يمكنك الإقدام على خطواتٍ مهما بدت مجدية على المدى القريب إذا كانت تسيء إلى عناصر تميّز الشركة.

يقول بورتر: "إنّ الشركات المبالغة في التفاعل مع التراجع الاقتصادي إنما تضع أنفسها في مآزق جسيمة".

ويطرح بورتر المثال التالي: إذا كانت إحدى الشركات تركّز تركيزاً إستراتيجيّاً على تقديم المنتجات و الخدمة الممتازة ثمّ عمدت فجأةً إلى إدناء نوعية خدماتها تجاوباً مع العملاء المتحسّسين للأسعار فإنّها بذلك تخاطر بزعزعة نجاحها على المدى الطويل و إزالة ما يميّزها عن المنافسين الذين يقومون جميعاً بتخفيض الأسعار".

و عنصر المفارقة هنا هو أنّ سعي الشركة للمحافظة على بقائها على المدى القريب يعمل على تهديد بقائها على المدى البعيد.

عندما تختصر الأسعار و تختصر نوعية الخدمة فلا تقم بذلك قياماً عمومياً. قم بالاختصار و التخفيض بناءً على الاحتياجات الإستراتيجيّة.

إنّ تعميم تخفيضٍ واحد على كلّ الأقسام ما هو إلاّ كارثة.

نصف الكأس المليء:

في خضم السحابة السوداء ما يزال ممكناً تلمس الكثير من الفرص المضيئة.

مع ما اعتدناه في الأوقات العاديّة من خضوع الشركات لتدقيق ربحيتها في كلّ ربعٍ سنويّ فإنّ الضغط يكون مسلّطاً على الدوام نحو المحافظة على أرقامٍ صحيّة.

و لكن في أوقات التراجع كالتي نمرُ بها الآن فإنّ معايير أسعار الأسهم و الأرباح الفصليّة تكادُ تصبح عديمة الأهميّة لأنّ الجميع عاجزون عن تحقيق نتائج مشرّفة في ضوء تلك المعايير. و محاولة التقدم تقدماً طفيفاً عندما يكون الجميع متخلّفين لا تكادُ تنفع نفعاً يذكر.

و في الطرف الآخر من معادلة هذه الفترة من التراجع الاقتصاديّ نرى أن هذه الأيّام هي التي تتوفّر فيها للشركات المرونة القصوى للقيام بتغييراتٍ غير مسبوقة و الدخول في استثماراتٍ ما كان لها الدخول فيها في فترات النشاط الاقتصادي العادي التي تخضع فيها لتدقيقٍ شديدٍ مركّز على المدى القريب.

"في أوقاتٍ كهذه يتاح القيام بنقلات ما كان لك أن تحلم بها من قبل، و ينبغي علينا أن ننظر إلى كلّ جوانب هذه المرحلة. يجب علينا إدراك أنّ قواعد الاقتصاد و المنافسة سوف تستمرّ و أنه يمكننا و ينبغي علينا الاستفادة من هذه المرحلة لدفع شركاتنا إلى الأمام".

عالم الابداع

الأحد, 18 يناير 2009 15:11
البروفيسور ميكايل بورتر