عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 24
جذور مهارات التفكير في حضارتنا
جذور مهارات التفكير في حضارتنا
يقول الله : اقرأ باسم ربك الذي خلق
لقد كانت الكلمة الأولى التي بدأ الله خطابه العلوي مع نبي الرحمة في لقائه الأول كلمة اقرأ ليرسم المَعْلمَ الأساسي في ديننا الحنيف وهو المعرفة التي تفتح آفاق العقل و توسع مداركه و حدوده ، و لكنه ليس أي علم أو قراءة ، إنما هو " باسم الله " أي اقرأ أيها الإنسان كتاب الكون و كتاب نفسك و تعلّم العلوم لا بقدرتك وحدك بل بفضل الله و علمه و قدرته و سلطته ، و كأنه جل جلاله يشبه ذلك بإنسان ينشئ مصنعاً فيقول له آخرٌ : افتتح مصنعك باسم فلان أي بدعمه و سلطته ، فهي لفتة حانية من خالق السماوات و الأرض للإنسان الذي قد يغتر بعلمه و يتصفح صفحات الكون و أسراره فيظن نفسه الفاعل و المؤثر و ينسى أنه لم يكن ليعلم ما تعلّم إلا بإذن الله و فضله.
و هي قراءة مزدوجة: فهي ربانية التوجيه اقرأ باسم ربك و هي علمية الوسيلة اقرأ و ربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم .
و لقد شرفنا الله تعالى في كتابه الجليل بمسؤولية الخلافة في الأرض و إعمارها حين قال : و إذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة . و يقول تبارك و تعالى: هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها . فأي شرف و قد استخلفنا الله في أرضه لنقيم شرعه و نعمِّر أرضه .
و كلمة استعمركم في اللغة العربية تأتي من إعمار الشيء وجذورها في قواميس اللغة ثلاثة أحرف (ع َم َرَ) و تفسير (استعمركم) أي جعلكم عمّارها وسكانها وطلب منكم إعمارها .
و إن إنساناً لم يحدد لنفسه هدفاً يستغرق حياته يعيش كالسفينة تتقاذفه الأمواج دون أن يدري أي شاطئ يأمنه أو يأوي إليه.. لذا فقد منح الله الإنسان العقل و زوّده بمفاتيحه و أمره بالتفكر و إعمال العقل، لكنه رسم له الحدود و سلّمه المفاتيح الصحيحة التي تُرشّد سلوكه و تجعل من حياته في الأرض حياة صلاح لا فساد، إعمار لا انهيار، إصلاح لا خراب، تعاونٍ بين الناس لا تسخير و استعباد.. لقد دلّه على الكنز و أعطاه الخارطة التي إن سار على هديها سلمت له دنياه و آخرته، و إن غرّه كنزه و ظن أنه ملك الأرض و ما عليها هلك و تعس و خسر الدارين.
هذا الكنز هو العقل الذي يرسم الحركة المادية للإنسان، تلك الحركة التي تغدو عرجاء عندما تسير بدون الخارطة التي صاغها خالق الإنسان.. هذه الخارطة هي الحركة الروحية للإنسان، هي القلب المتصل بخالقه يستمد منه مفاتيح نجاحه و يسمع الإرشادات التي فيها سعادته.. و إن تلازم هاتين الحركتين: حركة مادية بامتداد أفقي في الأرض أداتها العقل و حركة قلبية روحية أداتها قلب متصل بمولاه بامتداد عمودي يبلغ عنان السماء، لهي حركة فلاح الإنسان و سعادته في الدنيا و الآخرة، و حركة حضارة مبصرة راشدة.
لقد شيّد علماؤنا المسلمون حضارة أصيلة أعطت الخير للبشرية، و حملوا مشعل العلم و قدموه لكل من طلبه من الأمم فكانوا سبباً في كشف ظلمتهم وبناء حضارتهم، و لم يعرف التاريخ أمناً و استقراراً للعباد و البلاد، و ازدهاراً و صلاحاً و قضاءً على الفقر إلا في عهدٍ تلمس قوانينه و استمد علومه من تلازمٍ تامٍ بين الحركتين: حركة الإنسان في الأرض و صلته في السماء.
و لا غرو في ذلك فلقد خاطبنا الله في كتابه العزيز واضعاً لنا السبل التي تدفع الإنسان نحو العلم والترقي وإقامة الحضارة ونشر العدل والخير..
يقول الله : إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض . ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار .
روي عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فقال عبد الله بن عمير : حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكت وقالت : قام ليلة من الليالي ، فقال : يا عائشة ! ذريني أتعبد لربي، قالت: قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله ! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ لقد نزلت علي الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب .
المفضلات