لم يعان الانسان على امتداد التاريخ من التعامل مع الحاجات الاساسية التي يقوم عليها وجوده ، فهو يأكل ويشرب وينام ...
دون تذكير أو حث من أحد ولم لا والحيوان في أدنى درجاته يعرف كيف يلبي هذه الحاجات ، كما يلبيها الانسان ، واحيانا أفضل . لكن مشكلة البشرية الكبرى تتجلى في تعاملها مع الحاجات الثانوية ، حيث إن تلبيتها تحتاج إلى التربية والوعي والاحساس بنبض العصر ، والمفاهيم المحرِضة . ولذا فإن الناس الذين يتماثلون في درجة انتباههم لأهمية الطعام في حياتهم يختلفون اختلافا شديدا في درجة معرفتهم واهتمامهم بحاجاتهم الروحية والفكرية والاخلاقية .
ولا يخلو هذا التقسيم للحاجات من الالتباس ، فما نسميه حاجات ثانوية أو فرعية هو الذي يصنع الفرق بين إنسان الغابة وبين إنسان يقود طائرة نفاثة أو يعمل في مركز أبحاث !

نحن نعيش في عصر العلم والتجربة والاكتشاف والتنظيم والاهتمام بالتفاصيل واكتساب الميزات ، حيث تشكل هذه المفاهيم والمعاني محور الحياة المعاصرة ، حتى في عالم التجارة الذي يعتمد تقليديا علي المال أخذت المعلومات والمعارف والنظم تحل شيئا فشيئا مكان راس المال تمشيا مع روح العصر . الامم الغنية بهذه المفاهيم تعيش في قلب العالم المتقدم ، والامم الفقيرة فيها تعيش على أطرافه وهوامشه . وكل ما ينطبق على الامم ينطبق على الافراد . فأين موقعنا من منظور هذه الاعتبارات ؟ . لا أعتقد أننا في حاجة إلى الذكاء أو كد الذهن كي نعرف الجواب ، فمقارنة سريعة بين ما يفتتح من محلات الطعام والشراب والازياء والاثاث والكماليات التي تتكاثر بطريقة سرطانية وبين مايغذي العقل وينمي الروح من أوعية المعلومات ، توقفنا على الحقيقة المؤلمة ! فبينما تزدهر الاولى وتنتعش باستمرار يضج بالشكوى ناشرو الكتاب ومنتجو الشريط الاسلامي وكل من له صلة بالمعرفة الجادة من ركود الاسواق . ولم لا وقد تعود كل واحد منا أن يذهب مرة أو مرتين في الاسبوع إلى محلات الطعام والشراب والازياء وغيرها . ... لكن أعدادا ضخمة من الناس لا تذهب إلى مخازن المعرفة إلا مرة في الشهر أو في السنة ... وكثير منهم لا يذهبون إليها إلا لشراء أدوات القرطاسية لطفالهم . ومنهم من لم يقرأ أى كتاب منذ سنوات . ومنهم ومنهم ... .

يا أهل الغيرة وأصحاب رؤوس الاموال : إن الانسان لدينا في أمس الحاجة إلى من يعرفه على المتع الروحية والثقافية وإلى من يدربه ليجد في القراءة نوعا من الاكتشاف المثير ... وإذا كنا قد شكلنا جمعيات لصداقة المرضى والبيئة وتزويج الشباب ... فنحن بحاجة إلى جمعيات صديقة للكتاب والمجلة والشريط الاسلامي ... جمعيات تقدم الدعم لتوفير المادة المعرفية بسعر مناسب أو من غير مقابل . وربما صار على من يملكون الوعي منا أن يرفعوا شعار : أشتر كتابا وأهد كتابا . وصار على الاسر التي تهتم بمستقبل أبنائها أن تخصص 5%من دخلها على الاقل للحصول على المواد التي تبني عقولهم وتربطهم بالحياة العلمية المتجددة . وإذا لم نفعل ذلك فإننا سنظل نحيا على هامش العصر وعلى هامش الامم ... وبذلك نعد أبنائنا أن يستغلوا أسوأ استغلال .

إن أكبر أعدائنا هو الجهل ، الذي لا يحرمنا من التمتع ببعض الميزات فحسب ، وإنما يجعلنا في حالة من الجفاء مع النفس ، وفي حالة من العزلة عن أعماق ثقافتنا الاسلامية الاصيلة التي مجدت العلم كما لم تفعل أي ثقافة أخرى .