الشفافية



الشفافية في عالم الادارة الجديدة تعني الطريقة التي تؤدى بها الاعمال وتُتخذ بها القرارات دون اخفائها او كتمانها, مما يتيح للاخرين الاطلاع عليها.. وتشبيه ذلك بالمكتب الذي يعمل به الموظف وجدرانه من الذي يسمح برؤية ما بداخله دون غطاء او ستار او حجاب.. والشفافية ضرورة يسعى اليها فن الادارة الحديثة بعدما تكشفت عيوب ومخاطر السرية والكتمان والتعتيم الذي ظلت تمارسه الادارة التقليدية القديمة لعقود طويلة من السنوات حتى انتهت بنا الى الفساد بكل اشكاله ووسائله وبالامراض الادارية التي لا تُعد ولا تُحصى.
ويستمر الدكتور عامر الكبيسي في كتابه «الادارة العامة الجديدة» الصادر عام 2011 عن سلسلة كتاب الرياض في السعودية, في الحديث عن الشفافية واهميتها في الحياة المعاصرة من اجل تقدم ورقي المجتمع والدول قائلا: فالشفافية اليوم هي احد عناصر الحكمة والحكم الرشيد الذي يُعد مطلبا دوليا تعنى بمتابعته هيئة الامم المتحدة وجميع منظماتها المتخصصة لانها تعني المكاشفة والمصارحة والانفتاح والوضوح والعلنية امام الجهات المستفيدة وامام الرأي العام وامام السلطات التي يفترض بأن بعضها يتابع ويحاسب الاخر.
كما انها تعني التدفق السريع للمعلومات وانسيابيتها بين جميع المستويات داخل المنظمات ووضعها في متناول المواطنين الراغبين في الاطلاع عليها سواء اكانوا من المستفيدين او الباحثين او من المعنيين بالمراقبة والتقويم والمساءلة والمحاسبة عما يصدر من اخطاء وانحرافات, او يظهر من نقص او عجز او قصور.
والشفافية بوجه عام عكس السرية والخصوصية سواء على مستوى الافراد او المنظمات, وسواء تعلق الامر بالسياسات العامة او بقضايا المال والموازنات, او في وضع الخطط وتوقيع العقود والمناقصات او توزيع المزايا والمنافع والخدمات وغيرها من الموضوعات.
ولجعل الشفافية واقعا وسلوكا ينبغي البدء في الترويج لها كثقافة مجتمعية وكقيمة مؤسسية ليتم تنشئة الابناء عليها في اسرهم وفي مدارسهم فيلتزم بها الاباء والمعلمون امام ابنائهم وطلابهم فلا تكون العلاقة بينهم من جانب واحد. ولا يكون الحديث قاصرا على ما هو عام وثانوي.. او تظل دائرة الكتمان والسرية واسعة لخشية أي من الطرفين انكشاف ما هو مستور وخفي, رغم ما يقع من اخطار وانحرافات. حين تظل هذه الثقافة التقليدية الموروثة متداولة بين الافراد حتى يصلوا الى جامعاتهم ومؤسساتهم الادارية المدنية والامنية فيجدوا فيها التستر والكتمان والانغلاق, ثم يضيفون لها انماطا من الكذب والتحايل والتمثيل والتصنع والنفاق وغيرها من السلوكيات الدفاعية.. ويصبح عندها الرجل المتكتم والمتستر على الانحرافات محترفا ومن يخافه من الاخرين سيكون ساذجا او أهبل لمجرد انه يتصف بالصراحة والوضوح.
ان ثقافة سلبية كهذه لا يمكن انتزاعها من الواقع بالقاء المحاضرات والدروس الجامعية او الدينية ولا بمحاربتها بالتخويف والردع او القمع والتسلط, وان كانت هذه من آليات التغيير والتحول ما لم يتم الربط بينها في اطار استراتيجية متكاملة تؤمن بالمرحلية والتدرج, وتقر باساليب الحوار والاقناع مع الالزام وتطبيق الثواب والعقاب عبر التشريعات والنظم وهيئات الرقابة والمحاسبة وبرامج التعليم والتدريب اضافة الى مشاركات المنظمات الدولية والانسانية وهيئات وجمعيات المجتمع المدني المحلية والاجنبية وللحملات الشعبية والحكومية دورها في كشف المخاطر المترتبة على بقاء السرية شائعة في اجوائها الادارية والتعريف بالتجارب العالمية التي اسهمت فيها الشفافية بالحد من معدلات الفساد والمفسدين وتتبع آثارهم.
ويتابع د. عامر في كتابه هذا قائلا: ان للشفافية اليوم انصارا ينتشرون في كل انحاء العالم وينتظمون في جماعات ومنظمات ومواقع وشبكات ولهم مؤتمراتهم الدولية والمحلية وبحوثهم ودراساتهم.. وهناك القانونيون والمحامون ورجال القضاء الذين اسهموا في صياغة التشريعات الميسرة للشفافية عن الحجب والجدران الاسمنتية التي يتستر خلفها ادعياء الحفاظ على السرية من اجل الصالح العام.
وهناك السياسيون المعارضون لنظم الحكم التي لا تزال تعيش ظروف العزلة والانغلاق وتمارس سلطاتها باساليب فوقية واستبدادية مدعية بذلك حماية اسرارها من خطر الاعداء الذين يتربصون بالاوطان وهي فرية لم تعد تنطلي على هؤلاء الذين بدأوا يتحركون في السر وفي العلن مطالبين بالانفتاح وبالشفافية.
ويُضاف لهؤلاء اليوم جيل من الشباب الصاعد ممن تمرس في توظيف الالكترونيات وبناء المواقع واصدار المدونات وصار جل اهتمامهم كشف ما هو مستور, والتعريف بتلك العقود والصفقات والمقاولات التي يتم توقيعها بعد قبض العمولات واثراء الحسابات, وفاتهم ان التاريخ لهم بالمرصاد.. وان المواقع الالكترونية باتت توثق جرائمهم التي لن تسقط بالتقادم.
وعلى مستوى اقطارنا العربية يمكن القول ان الشفافية قد قطعت شوطا جيدا خلال العقدين الاخيرين على المستوى السياسي والاداري والاقتصادي والتشريعي. فقد اعلنت منظمات المجتمع المدني الاهلية الاعلان العربي للشفافية عام 2004 وانشئ الاتحاد العربي للمنظمات المعنية بالشفافية واعلن عن انشاء الشبكة العربية للافصاح والشفافية.
كما اعلنت بعض الدول العربية مشروعات واعدة لمتابعة الشفافية في مجالات القروض والديون وتمليك الاراضي العامة, واصدرت قانون الاقرار بالذمة المالية لكبار الموظفين عند دخولهم وعند خروجهم, وربطت الحصول على العديد من الخدمات باكمال اجراءات تسديد الضرائب ودفع الرسوم والغرامات.
ومع كل ذلك فان قدرا من التحفظ وسياجا من الحماية والكتمان لبعض المعلومات والسياسات والاستراتيجيات ذات العلاقة بسيادة الدولة وأمنها وخططها وقواتها وسلاحها ينبغي ان يظل آمنا وتتعهده ايدي حريصة ومخلصة تعرف كيف ومتى ولمن يتم كشفه وتوضيحه.. وهذا يعني ان العديد من المؤسسات الامنية والاستخباراتية والمعلوماتية والدبلوماسية سيظل لها خصوصيتها. وان وثائقها وملفاتها تظل سرية وفقا لتشريعات ضامنة.. لذلك وعلى الاقل لعقود محددة من الزمن.. وبعد ان تفقد طابعها الامني او الاستخباراتي الهام الذي حجبت بسببه.. وهذا ما تأخذ به كل النظم العالمية بما فيها الدول المتقدمة التي تصدر اليوم الشفافية لغيرها بينما يظل الكثير مما لديها بعيدا عن متناول الاخرين.
الرأي الاردنية ابوااااااب