كانت حياة الإنسان قبل عقود من الزمن مستقرة نوعًا ما، وكان الهدوء هو ديدن الإنسان في معظم أحواله، لقلة المثيرات النفسية آنذاك:
- فلم تكن ثمة مسؤوليات متشعبة لتشتت تفكير الإنسان أو تؤثر على أداء عمله البسيط في المزرعة أو المصنع أو المتجر.
- ولم تكن ثمة أزمات سكانية وبشرية بهذه الصورة المهولة التي تفرض على واقع الناس أنماطًا جديدة من العلاقات والمسؤوليات.
- ولم تكن المساكن والمرافق بهذا النمط الخانق والمتراكم بعضه فوق بعض، كما هي الحال في كثير من دول العالم.
- بل لم تكن المصائب التي تعتري الإنسان بهذه الحدّة والشدّة، فلم تكن ثمة أمراض بهذه النسب المهولة والأسماء المتعددة والتي صارت تفتك بالإنسان وتهدد حياته وتجعله أسير الخوف والقلق. مع بطء الوصول إلى علاجات لها.
- ولم تكن ثمة حروب طاحنة تقتل الألوف من البشر خلال فترات زمنية قصيرة، عبر التقنيات العسكرية والحربية الحديثة.
- لم تكن هذه الحوادث المريعة الناجمة من جراء حوادث السيارات والطائرات والبواخر وغيرها من وسائل النقل.
- وفوق ذلك كله لم تكن ثمة أزمات مالية واقتصادية تحل بالبشر وتقلب أحوال الأمم والشعوب من قمة النعيم والرفاهية إلى حضيض الفقر والحاجة.
وغير ذلك من التغيرات والآفات والمشكلات التي أثرت بصورة سلبية على حياة الإنسان، وبالتالي أثرت على قدراته وطاقاته الكامنة.
وهذا يعني أن هذا التطور التقني الذي يشهده العالم والذي ساهم كثيرًا في راحة الإنسان فإنه في الوقت نفسه أثقل كاهل الإنسان بكثير من المسؤوليات والالتزامات التي تأكل من عمره ووقته، بل إنه في كثير من الأحيان يأتي جامحًا لا يستطيع الإنسان الوقوف أمامه أو الحدّ من امتداده.
من هنا ظهرت ظاهرة الضغط النفسي:
والتي تتمثل في عدم القدرة على مواجهة التحديات أو القيام بالمسؤوليات المنوطة بالوسائل والإمكانات المتاحة.



آثار الضغط النفسي:

إن الضغوط النفسية تضع صاحبها في كثير من الأحيان في حالات غير متزنة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى ظهور آثار ونتائج سلبية على حياته ومجتمعه، ومن أهم هذه الآثار:
1 – يولّد الضغط النفسي – أحيانًا - في نفس صاحبه نوعًا من العنف والتطرف والنقمة على الواقع والنظر إليه بسوداوية قاتمة، أملاً في الخروج من أزمته وتخفيف وطأة المسؤوليات عليه، لا سيما إذا لم يجد من يقف بجانبه ويحمل عنه بعض أعبائه وآلامه.
2 – يؤدي الضغط النفسي إلى الانعزالية عن الحياة، والبعد عن الواقع، بل يجعل صاحبه يسبح في عالم الخيال، فيضطرب عنده منهج التفكير والتحليل، فتراه يناقش موضوعًا مألوفًا بتحليلات فلسفية غامضة، أو تفسيرات شاذة لا يقبلها العقلاء والأسوياء.
3 – الضغط النفسي يؤثر في التعامل مع الآخرين أو بناء علاقات معهم، حيث يصعب على الإنسان المضغوط نفسيًا بناء علاقات مع الجيران، أو صداقات مع زملاء العمل، أو مع الطلاب إن كان مدرسًا، ومع الجمهور إذا كان موظفًا، ومع الموظفين إذا كان مسؤولاً أو مديرًا، وهكذا مع جميع الشرائح والمستويات في المجتمع، وهو تهديد لبناء المجتمع والأفراد والمؤسسات في التقدم والرقي والازدهار.
4 – للضغط النفسي آثار سلبية كثيرة على الجوانب العضوية في الإنسان، فكثير من الأمراض العضوية هي إفرازات حقيقية للحالة النفسية التي يعيشها المريض، ومن أجل ذلك يوصي الأطباء مرضاهم بالابتعاد عن الانفعالات النفسية، لا سيما المصابين بالقلب أو الضغط أو السكر أو المعدة أو القولون وغيرها، لأن العامل النفسي يؤدي دورًا مهمًا في تهدئة مثل هذه الأمراض والشفاء منها، أو إثارتها والحدّة في آثارها.
5 – يؤثر الضغط النفسي سلبًا على الإنتاج في العمل والإبداع في الحياة، لأنه يُفْقد صاحبه التوازن في التعامل مع الأشياء، وكذلك يشتت عنده الطاقات والإمكانات، فضلاً عن الاستياء من الوصول إلى تحقيق الغايات وبلوغ الأهداف.



علاج الضغط النفسي:

بما أن الضغط النفسي يشكل مشكلة أو مرضًا قائمًا فلا بد وأن يكون له بعض العلاجات والأدواء التي تمنعه أو تحدّ من وطأته على الإنسان، ومن أهم هذه العلاجات والوسائل:
1 – تقوى الله تعالى والتقرب إليه بالعمل الصالح، لقوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً) (1)، وقوله جل ثناؤه: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)(2).
وقصة النفر الثلاثة الذين حُبسوا في الغار ليست بعيدة عنا، فقد فرّج الله عنهم هذه الكربة حين تذكر كل واحد منهم عملاً صالحًا وخالصًا لله تعالى فتوسل إلى الله تعالى فيه.
2 – الاستعانة بالصبر والصلاة، لأنها تعين الإنسان على مواجهة التحديات والمسؤوليات بثبات ونجاح، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (3).
يقول حذيفة رضي الله عنه: \"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى\"(4).
3 – حسن الظن بالله تعالى, بأنه وحده كاشف الضرّ عن الإنسان، وأن الشدة مهما طال أمدها فإن الله متبعها بفرج ويسر، يقول الله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: (لا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (5).
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: \"إن الله يقول: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني\"(6).
وصدق الشاعر القائل:

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ** فرجت وكنت أظنها لا تفرج

4 – ذكر الله تعالى بالاعتقاد والقول والعمل سبب لتفريج الهموم واستقرار النفس وطمأنينتها، لقوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (7).
5 – لزوم الاستغفار والدوام عليه، فإنه من أسباب السعادة والطمأنينة النفسية، كما أنه يفرج الكربات ويذهب الهموم والغموم، لقوله صلى الله عليه وسلم: \"من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب\"(8).
6 - اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء، لأنه يذهب الهموم ويفرج الكروب، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة فقال:\" يا أبا أمامة مالي أراك جالسًا في المسجد في غير صلاة ؟\" قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله. قال:\" أفلا أعلمك كلامًا إذا قلته أذهب الله همّك وقضى عنك دينك؟ \" قال: بلى يا رسول الله. قال: \" قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن والعجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال\"(9).
وكان من دعاء موسى عليه السلام لله تعالى أ ن يشرح صدره وييسر أمره، ليذهب ما به من همّ وغم، قال الله تعالى على لسانه عليه السلام: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (10) .
7 – العمل بالأسباب المعينة على النجاح في الحياة، ثم التوكل على الله تعالى والاستعانة به من أجل تحقيق الغايات وحصول أفضل النتائج، فالعمل والتوكل أمران متلازمان لتفادي الضغوط النفسية وآثارها السلبية، يقول الله تعالى: ( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) (11)، ومن كان الله حسْبُه فلا يضل ولا يشقى أبدًا.
8- لا بأس بأن يستعين المسلم بأهل الخبرة من الأطباء النفسانيين أو غيرهم فقد تضيق الحالة بالإنسان ويسيطر عليه الهم والغم والحزن والاكتئاب جراء هذه الضغوط فإذا استشار غيره فيعينه على فتح باب مهم يرى منه النور بإذن الله تعالى.



ومن خلاصة القول:


أنها في النهاية من صنع الإنسان ومن عمل يده، (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) (12) ، لأن جلّ هذه الضغوط عبارة عن أخطاء سابقة تراكمت وتعاظمت على صاحبها ولم يتعامل معها بمنهجية سليمة، إلى أن بلغت حدّها، فجاءت شديدة على النفس وقاصمة للآمال والرغبات، ويستطيع الإنسان أن يتفادى الضغوط النفسية ويتجنب الآثار السلبية الملازمة لها، حين يتهيأ منذ البداية لمواجهة مثل هذه التحديات، وذلك من خلال التربية الإيمانية الصحيحة للأجيال من الأبناء والبنات في البيوت والمساجد والمدارس وجميع المؤسسات التربوية والمراكز التعليمية.
لأن العبد حين يتعلّق بالله تعالى، ويشعر بعظمته وقدرته على الأشياء من جهة، كما يشعر بمدى لطفه ورحمته بعباده من جهة أخرى، فإنه لا يخشى الصعاب والتحديات، بل يتخطاها ويواجهها بثبات ونجاح.