القرارات الفردية

أفضل من القرارات الجماعية (أحيانًا)!!







تحتل العلاقات البشرية والتفاعل فيما بين الأفراد مكانة متقدمة في مجال الدراسات النفسية. وإذا كان بإمكان الأشخاص الذين يعملون في مجموعات أن يصبحوا مبدعين ومتعاطفين بعضهم مع بعض، كأن يسهموا في إقامة شركات رابحة أو أن يساعدوا الآخرين في التغلب على المشكلات الشخصية التي تصادفهم، فإننا على الجانب المقابل ربما نجدهم وقد أكل الحقد والحسد قلوبهم أو قد تسيطر عليهم النزعة إلى الانتقام أو تتملكهم الرغبة في التدمير!



لقد أصبح فهم السلوك الجماعي يمثل أحد التحديات المهمة التي تواجه علم النفس في وقتنا الحاضر.
وما لم تكن ناسكًا أو شخصية انعزالية، فمن المحتمل أن تكون عضوًا في جماعات عديدة مختلفة.
بعض هذه الجماعات قد تكون لها صفة الديمومة، مثل الأسرة أو فريق العمل، في حين أن غيرها، مثل جمهور كرة القدم أو مجموعة من الأصدقاء في حفل، تكون مؤقتة. وبالطبع فإنك أنت الذي تختار أصدقاءك والجماعات التي تجد معها مصلحتك، لكنك تجد نفسك معلقًا بأسرتك وهويتك.
باختصار، فإن كل جماعة تحمل معنى مختلفًا بالنسبة لأعضائها لكن تظل هناك بعض المعالم النفسية العامة لأية جماعة.
إن البشر كائنات اجتماعية لهذا السبب نتجمع معًا في مجموعات بالدرجة الأولى. «هناك عناصر مهمة تشكل إدراك الإنسان لذاته، تأتي من كونه عضوًا في إحدى الجماعات» حسبما يقول دوجلاس هاوات المحاضر المتقاعد في علم النفس بجامعة كوفنتري ويضيف: «كثير من الأشخاص يسعدون بكونهم أعضاء في جماعات، إنها وسيلة لتكوين علاقات تشبع الجانب الشعوري لدى الفرد. وهؤلاء الأفراد يحبون حقًا أن يكونوا جزءًا من جماعة إذا كانت هذه الجماعة ناجحة. عندما يكسب فريق كرة القدم، فإن مشجعيه ينعمون بالمجد والفخر الذي ينعكس عليهم».
ربما كان ذلك هو السبب في أن هؤلاء المشجعين، عندما يتحدثون أمام الميكرفون في برامج الكرة يقولون «نحن» إذا كان النقاش يدور حول أداء فريقهم.




«إن الجماعات تكون أكثر قوة من الأفراد المحددين عندما يعملون معًا في تنسيق وتعاون إن الجماعات يمكنهم (بالمعنى الحرفي) تحريك الحبال» كما يذكر «جيم كويك» أستاذ السلوك التنظيمي بجامعة تكساس في آرلنجتون.
لكن وجودك في جماعة يغير في طريقة سلوكك. فوجود الآخرين يكون له، بصفة عامة، تأثير منبه للجهاز العصبي. هذا أمر طبيعي لأنك لا تعرف ماذا سيفعلون، ربما يتحدثون إليك، أو يتحركون هنا وهناك، أو حتى يهاجمونك... ويتعين على مخك أن يكون منتبهًا لكل هذه المثيرات الطارئة. إذا كان الآخرون يتصرفون كمتفرجين، فربما ينتابك القلق حول إذا ما كانوا يجرون عملية تقييم لك أو الحكم عليك. كما أن مجرد وجود آخرين حولك قد يصيبك بالارتباك، فهو يشتت انتباهك. لذلك لا تستطيع التركيز في العمل الذي بيدك.
في عقد الستينات من القرن الماضي، وضع عالم النفس «روبرت زاجونك» نظرية «البراعة الاجتماعية Social facilitation» التي تقول إن الأشخاص يكون أداؤهم أفضل في الأعمال البسيطة التي تدربوا عليها كثيرًا، عندما يكونون مع آخرين مما لو كانوا بمفردهم. لكن في حالة الأعمال المعقدة فإن أداءهم ينخفض بشدة.
لكن هناك جانبًا آخر للسلوك الجماعي وهو «التبطل الاجتماعي Social loafing» وهو أن الفرد يميل للاسترخاء والاندماج في الحشد المجموع إذا لم يكن هنالك من يراقب جهوده كفرد.
وقد بدأت دراسة «التبطل الاجتماعي» في ثمانينيات القرن التاسع عشر بواسطة «ماكس رنجلمان» وهو مهندس زراعي فرنسي لاحظ أنه عندما قام فريق من الرجال بشد أحد الحبال (عمل بسيط) بذل كل منهم جهدًا أقل كفريق مقارنة بالجهد الذي يبذله عامل واحد عندما يكون بمفرده!
أما عندما يتعلق الأمر بالأعمال المعقدة، فإن احتمال عدم تقييمك وتقديرك كفرد ربما يمنحك قدرًا من التحرر. ولاختبار هذه الفرضية، طلب علماء النفس من المشاركين تنفيذ عمل على جهاز الكمبيوتر في غرف منفصلة. وقد تم إبلاغ البعض بأن الأداء سيتم تقييمه على نحو فردي (مما تسبب في إصابتهم بقلق بخصوص الأداء) في حين أبلغ الآخرون بأن النتائج ستكون طبقًا لمتوسط أداء بقية المجموعة. وكما هو متوقع، فقد كان أداء المجموعة الأولى أسوأ من الثانية.


هذا النوع من انعدام المسؤولية يمكن أن يؤدي إلى أشخاص متحللين من كل ما يكبحهم وهو ما يطلق عليه «إلغاء الذات الفردية deindividuatin» في بعض الأحيان يكون ذلك الأمر خطيرًا، ويترتب عليه ظهور سلوكيات تتسم بالعنف والاندفاع، لا يمكن للأفراد أن يفكروا في الانخراط فيها لو كانوا بمفردهم. الشباب صغار السن من جماهير كرة القدم يسبون ويهاجمون الأشخاص والممتلكات بينما عرف عن أندادهم المصابين بالهوس في حفل لموسيقى الروك أنهم يدوس بعضهم بعضًا حتى الموت!
إن مشكلة إلغاء الذات الفردية تصبح أكثر سوءًا عندما تتوارى الهوية خلف طلاء الحرب أو القلنسوة والرداء. فقط انظر إلى عمليات إعدام الأمريكان من أصل إفريقي بدون محاكمة التي نفذتها جمعية «الكوكوكس كلان Ku Kux Klan»(1). لقد أظهر تحليل لستين عملية إعدام خلال الفترة من 1899م إلى 1946م أنه كلما كان الحشد يضم عددًا أكبر من الأشخاص، كان العنف ضد ضحاياهم أشد قسوة. وهناك دراسة أخرى للحرب في أربع وعشرين حضارة تظهر أن المقاتلين بالزي العسكري كان لديهم استعداد لقتل الأسرى أكثر من المحاربين الذين لم يخفوا هويتهم.
يتفق د.هاوات مع الرأي القائل إن إلغاء الذات الفردية له بالفعل دلالات سلبية عديدة، لكنه يستدرك بأن ذلك ليس دائمًا بالأمر السيئ «إنه فعلاً مظهر عادي جدًا للسلوك الجماعي. بدلاً من التفكير في عنف الجماهير، فكر في الاسترخاء والمتعة التي تحصل عليها في حفل.. ذلك أيضًا إلغاء للذات الفردية أو نوع من ذوبان الفرد في الجماعة».

قدح الزناد
إحدى أهم المزايا التي تصاحب الجماعات هي توالد الأفكار والآراء والاستفادة من ذلك في اتخاذ القرارات. ومن الأمور المسلم بها على نطاق واسع، أن عقلين (أو أكثر) أفضل من عقل واحد إذا ما تناولنا هذه الجوانب من السلوك البشري. لهذا السبب نجد الاتجاهات الحديثة في التعليم تركز على الطلاب أو الدارسين الذي يعملون في مجموعات صغيرة لإعداد المقدمات العلمية ولهذا السبب أيضًا تعد عملية قدح زناد العقول brain storming من خلال تبادل الأفكار مسألة شائعة جدًا في بيئة العمل، لكن الأمر المثير للدهشة أن الأبحاث أظهرت أن قدح زناد العقول بين المجموعات ليس بالفعالية نفسها، سواء في عدد الأفكار الجديدة أو نوعيتها، حيث يمكنك الحصول على نتائج أفضل إذا هيئ الأشخاص (كل بمفرده) للعمل على حل مشكلة ما.
نحن نميل أيضًا إلى افتراض أن القرارات التي تتخذها الجماعات أفضل من القرارات الفردية، معظم الناس في الغرب اعتادوا الممارسات الديمقراطية (مهما كانت هذه الممارسات غير مثالية في التطبيق) وسوف يصابون بالرعب إذا راودتهم فكرة أن يحكموا بواسطة حاكم ديكتاتور. إننا نعلق أملنا على أن لجنة ما سوف يمكنها اتخاذ قرار أفضل من أن يتولى شخص بمفرده هذه المهمة، وأبرز مثال على ذلك استخدام هيئة محلفين في المحكمة.
لكن الفريق الذي يتم انتقاؤه بعناية (وليس المجموعة التي تشكلت بطريقة عشوائية) هو الذي يتخذ القرارات الخلاقة، حسبما يقول، ميريديث بلبين الذي صاغ نظرياته في كلية هنلي للإدارة حول تشكيل الفريق وأثبتت هذه النظريات نجاحها في مجال الأعمال بمختلف أنحاء العالم «إن العدد المفضل لأعضاء فريق ما هو أربعة أشخاص يليه فريق من ستة أفراد» ويضيف «بلبين»: «إن الأعداد الفردية غير فعالة، من الأفضل أن يعمل الأشخاص بأعداد زوجية متكاملة. اللجان كبيرة العدد لا تنجز شيئًا، مع ذلك فإن الناس يفضلونها»!
الحقيقة أن الجماعات يمكنها التوصل إلى قرارات خاطئة وسيئة جدًا، لأن عمليات التفكير لدى أفرادها قد تتخذ منحى منحرفًا! وهي عملية يطلق عليها علماء النفس «الفكر الجماعي group think». أفضل الأمثلة على ذلك هو خطة الرئيس «جون فرانكلين كنيدي» باستخدام عدد من الكوبيين بالمنفى، الذين دربتهم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «CIA» لغزو خليج الخنازير بكوبا عام 1961م. وكانت عملية كارثية كادت أن تدفع العالم، أقرب من أي وقت مضى، نحو حرب نووية. وقد قال «كنيدي» فيما بعد معلقًا على ذلك: «كيف وصلنا إلى هذا الحد من الغباء؟!» الإجابة أن القرار جاء من الرئيس ومجموعة ضيقة مقربة، تتكون من المستشارين المعزولين عن الحوار والنقد والذين وصل بهم الأمر إلى حد الاعتقاد بأنهم منزهون عن الخطأ. لقد أصبحت المجموعة أكثر أهمية من الأفراد الذين تتشكل منهم!!
وعلى الرغم من أن كنيدي بدا أنه قد تعلم من عملية «خليج الخنازير»، فإن هناك احتمالاً واضحًا بأن أسلوبه التسلطي في القيادة «authoritarian leadership» قد أسهم في نشوب هذه الأزمة.

ترجمة: عبدالمنعم السلمون - مصر
مجموعة تطوير الذات