وقت الفراغ هو مرحلة التهيؤ للعمل والإبداع
أبرزت الحضارة المعاصرة في سيرورتها المتعاظمة , بفضل مصادر تطورها الداخلية, ظاهرة تدعى (وقت الفراغ) التي سرعان ما وسمت هذه الحضارة بطابعها , وجعلتها تعبيرا عنها , بحيث باتت اليوم حضارة (وقت الفراغ) , ويرى البعض أن هذه الظاهرة اختراع حديث – وهي نظرة لا تخلو من تمحور غير مبرر على وحدة حضارية تمحور الإنسان الغربي على الحضارة الغربية كما هو حال علماء النفس الاجتماعيين , الذين يعتقدون إن إشباع الحاجات الفكرية – تحقيق الذات على سبيل المثال – غير موجود في الحضارات التقليدية أو البدائية .
وتشير الوقائع إلى أن ظاهرة وقت الفراغ , تلازم وجود الثقافة في المجتمع , سواء أكانت الثقافة قديمة أم حديثة , إلا أن تلك السكة التي تميز الحضارة المعاصرة , المتمثلة في إنقاص يوم العمل وأسبوعه , وانتشار نظام العطلات والأجازات المأجورة , التي أنتجت مزيدا من وقت الفراغ عند أفراد المجتمع , وقد أعطت هذه الظاهرة بعدها وانتشارها في المجتمع المعاصر , ويعتقد البعض أن ظاهرة وقت الفراغ , تتجلى في صورة زمن محرر بالتقابل مع زمن العمل , ولا يمكن فهمها إلا ضمن هذا التقابل , بحيث أصبحت أمرا لا غنى عنه لنمو المجتمع الحديث وتطوره , فمن خلالها يتم تصريف سلع الاستهلاك التي يجري إنتاجها على نحو دائم ومتزايد , وتبين الدلائل أن ليس ثمة وقت متحرر من الالتزام المعياري , فما هو عمل بالنسبة إلى البعض قد يكون فراغا عند الآخرين , وهذا بدوره يجعل من وقت الفراغ مفهوما يتسم بالنسبة إلى حد كبير وربما كان ذلك أيضا سببا يدعونا إلى تدعيم تصورنا وقت الفراغ كمفهوم أكثر شمولا من مجرد الوقت المتحرر نسبيا من الالتزام بالعمل , فوقت الفراغ مفهوم اجتماعي يمكن أن يستخدم للإشارة إلى الاتجاهات , والرغبات , والتفضيلات , وأنماط التفكير , والاهتمامات ذات الأنواع المتعددة لدى الأفراد والجماعات , خلال فترات من حياتهم اليومية لهم الحق في استثمارها على نحو يشيع حاجاتهم الشخصية ويحقق أهدافهم الخاصة , ونظرا لأهمية هذه الظاهرة الاجتماعية , ذات الجوانب السلبية والايجابية , نشأ علم اجتماع خاص بها , يبحث جوانبها المختلفة وارتباطاتها بالبناء الاجتماعي , هو علم اجتماع الفراغ .
ويرتبط وقت الفراغ واستثماره بالبناء الاجتماعي السائد , وبمستوى التقدم الحضاري , ودرجة تعقد النظم الاجتماعية والثقافية , ويعتمد وقت الفراغ على العلاقات الاجتماعية , ويخضع للقوانين التي يفرضها المجتمع على هيئاته المختلفة , لهذا تختلف أنشطة وقت الفراغ , باختلاف المجتمعات والثقافات , بل هي تختلف باختلاف الأفراد والجماعات في المجتمع الواحد ويعود السبب إلى التباين والاختلاف في طابع القيم والأنماط السلوكية والاجتماعية السائدة في المجتمع .
ولا يجوز اعتبار وقت الفراغ في هذا العصر , مسألة ثانوية يمكن التقليل من أهميته وقيمته بالنسبة إلى الإنسان والمجتمع , فقد قال سقراط : (إن وقت الفراغ لهو أثمن ما نملك) , ولا يمكن في هذا العصر تصور الحياة عملا متواصلا , لأن ذلك يؤدي بعد فترة إلى الشعور بالتعب والملل , لذا فإن تحقيق التوازن بين وقت العمل ووقت الفراغ , أمر أساسي للإنسان , فالترفيه الثقافي والروحي والجسدي , ضرورة حيوية تمهد لحركة العمل والإبداع , وتتجلى أهمية وقت الفراغ لأنه منطلق التكوين الذاتي وإعادة إنتاج الحياة الذاتية , من خلال ممارسة أفراد المجتمع بنشاطات تسهم في بناء شخصياتهم وتنميتها , فمن خلال معرفة نشاطات أوقات الفراغ يمكن الحكم على شخصية الإنسان , أي قل لي ماذا تفعل في وقت فراغك , وأنا أخبرك بشخصيتك , إن الشخصية التي تعيش ظروفا خالية من أنشطة وقت الفراغ هي شخصية غير سوية , وتكشف أنشطة وقت الفراغ عن مواهب الناس وقدراتهم , وتعمل على الترويح والترفيه عن أنفسهم وتجدد طاقاتهم الإنتاجية , وتلبي حاجاتهم البيولوجية والنفسية والاجتماعية , كما تعمل على استعادة القوى التي خسرها الإنسان أثناء العمل اليومي , مما يعني أن وقت الفراغ مرحلة من مراحل التهيؤ للعمل والإبداع , ولا بد من الإشارة إلى أن إساءة استثمار وقت العمل ووقت الفراغ أو التناقض ببينهما , يؤدي إلى تصرفات لا سوية مثل , اندفاع الشباب , وملل الكبار – وهناك كلمة شهيرة مؤداها (أن تشعر بالملل هو أن تقبل الموت) .
إن كثرة وقت الفراغ الشباب بالإضافة إلى الوسائل المتطورة التي أنتجها التقدم العلمي والتقاني وعدم التحكم في آليتها وكيفية استثمارها , وقدرتها على جذب الشباب إليها خصوصا الشباب الذي لم يدخل معترك الحياة بعد , تتطلب التخطيط لاستثمار أوقات الفراغ عند الشباب , لفهم حاجاتهم ورغباتهم , وخلق الوعي بأهمية استثمار أوقات فراغهم , وتدريبهم على حسن استثماره , بوضع برامج تحقق له توازنا انفعاليا وعقليا وصحيا واجتماعيا , بحيث يغدو وقت الفراغ منفذ تعبير عن حاجاتهم ورغباتهم المكبوتة , وبذلك يكسبهم أنماطا من السلوك تعزز صفات ايجابية مثل التعاون , والصداقة , والشعور بالولاء والانتماء , والمنافسة الشريفة , والمبادرة والعطاء , ويمكنهم من التكيف الاجتماعي الذي يتفق مع المعايير الاجتماعية , ويؤدي عدم استثمار أوقات الفراغ ايجابيا إلى وقوع الشباب في مشكلات منها : القلق , التوتر , الخوف من الذات , الضجر , الملل , البطالة , الضياع , السقوط , الانهيار الأخلاقي , تناول المسكرات , تعاطي المخدرات , السهر في أماكن منحرفة , وهذه كلها سلوكيات تؤدي إلى الحط من قيمة الإنسان , وبناء مظاهر الضعف والجمود والسلبية والانحراف لديه و وإضعاف شخصيته الاجتماعية وقد تنبه الشاعر العباسي أبو العتاهية لخطورة وقت الفراغ على الشباب فقال :
(إن الفراغ والشباب والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة ).
فالتخطيط في مجال الشباب عمل وقائي تنموي , يندرج في إطار خطط التنمية الشاملة , التي تخدم المجتمع حاضرا ومستقبلا , وتصون إمكاناته، وتبعده عن الوقوع في المشكلات التي تمنع تطوره بشكل متوازن .
المفضلات