احرص على ألا يضيع منك الزمن هباء






الوقت أو الزمن مادة خاصة تصلح لإنتاج كل غال أو رخيص، وكل ذي قيمة عالية أو بخس زهيد فيه، ويكتسب منها ما يملأ العقل والنفس والجسد، ويطمئن منها، أو يخرج منها ما يضر العقل والنفس والبدن، ولأضرب مثلاً: مادة السيللوز التي يصنع منها الورق (مادة الورق) توضع في مصنع (آلة) فتخرج الأوراق النقدية حيث تخزن في المصارف المركزية لكل دولة، ثم توزع ويخبئها الإنسان في خزانته أو في جيبه ليؤدي بها حاجاته، وبقدر ما يكون عند الفرد منها يصبح غنياً، فيطلق عليه لقب (الملياردير) أو (المليونير)، تلك المادة ذاتها إن وضعت في مصنع آخر (آلة) أخرجها كأوراق لإزالة النجاسات حيث تلقى إلى المزابل والقاذورات.

الزمن هو المادة، والإنسان هو المصنع، فلينظر الإنسان إلى إنتاجه! قبل أن يُسأل هو عن هذا الإنتاج! مع الفارق أن المادة تنتهي، والمصنع يعطل أو يوقف، فالزمن له أجل «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً» (النبأ:18).

ويستطيع الإنسان أن يوقف المصنع بالضغط على أزرار، أو بعدم إرسال المادة إليه، أما الزمن فإنه يجري بالرغم عنه، وما يستطيع أحد أن يوقفه.

وقد عرضت سابقاً بعض النماذج من أصحاب الهمم العالية، وبضدها تتميز الأشياء إذ لم أعرض للذين ظنوا أن الحياة لهو ولعب، وسرور وطرب، فإنها تزول كاللعب الذي لا حقيقة له ولا ثبات، وما علموا أن الحياة هي دار الغرور والخديعة، وهل يقع في الاغترار أو الخديعة إلا ضعيف العقل أو السفيه، والله سبحانه وتعالى يقول «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» (العنكبوت: من الآية64).

دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها، وهذا لا يعني أن يزهد المرء في متاع الحياة الدنيا، وإنما يعني مراعاة الآخرة في هذا المتاع، فالمسألة مسألة قيم يزنها بميزانها الصحيح، فالدنيا لهو ولعب، والآخرة حياة مليئة بالحياة.

ولا يأتي الإنتاج الجيد إلا بالدراسة والتمحيص وتنظيم الأدوار والأزمنة، لذلك كان المسلم أن ينطلق من تنظيم جاد لتنفيذ المهام والأعمال بأقل جهد وأقصر وقت، ثم يتبقى لديه وقت للإبداع والتخطيط للمستقبل، وللراحة والاستجمام أيضاً.

وهذه إشارات إلى تنظيم الذات وإدارته ضمن الوقت:

السلف

بقراءة واعية لبرنامج هؤلاء الأفاضل، وأمثالهم ممن لم نذكرهم فإننا نجد نماذج جدية لاكتساب الوقت، ولكل واحد برنامجه حسب عمله وسعيه، ويختلف برنامجه عن الآخر، فمنهم الذين يكتب بالليل، وآخر بالنهار، ومنهم من يسعى بعمل، وآخر يسعى بالعلم، ولكنهم جميعاً قد ربحوا الوقت، وأنتجوا علماً غزيراً، وفائدة لمن بعدهم.

ونعرف أيضاً أن الإسلام لم يجعل لحياة الإنسان نظاماً صارماً دقيقاً إلا في العبادات إذ قدّر لها أزمانها، وما عدا ذلك فلكل إنسان أن ينظم وقته حسب إمكاناته وأحواله.

خصوصية كل إنسان

وعلى هذا فإن لكل إنسان مسلم خصوصياته ولا يمكن أن يتطابق إثنان فيها وفي نفسيهما، ولكن لا بد من التمسك بجدولة اليوم والأسبوع، وتوزع الأعمال فيها إذ تقدم أوقات الصلاة، والأعمال الواجبة الأخرى، والتزامات من لقاءات ومواعيد وحضور دروس وما شابه ذلك، وما زاد على هذه _وأظنه كثير في حياة الفرد المسلم- يرتبه ويخططه حسب ظروفه وتطلعاته وقدراته.

قواعد عامة

بعض القواعد التي تؤخذ بجانب الحذر على تنظيم الوقت، وهي قواعد عامة تصلح لكل من يريد تنظيم وقته، وإدارة زمنه تلخص في أمور أربعة:

1- احرص على ألا يضيع منك زمن ولو يسير في يومك وفي أسبوعك حسب تنظيم الخطة.

2- أدّ الفرائض والواجبات قبل أي عمل آخر وأعط لها الأولوية المطلقة في الخطة.

3- وزّع بعد ذلك زمن النوافل، ولا تقدمها على الفرائض قط.

4- رتب برنامج الزمن بعد ذلك حسب حاجاتك، وحسب ما يناسبك، مظهراً فيه الحرص الشديد على اغتنام ا لفوائد وإظهار الإنتاج النافع.

ومن هذه القواعد ما يقتضي حسن توزيع الزمن، حيث يلفت النظر إلى أن العمل العلمي ينزل منزلته في الوقت الملائم له إذ أن بعض الأعمال العلمية يصلح في كل وقت، وكل زمن صالح له _مثل النسخ أو الكتابة- والمطالعة الخفيفة والقراءة العابرة، فهذه وأمثالها لا تحتاج إلى تفكير عميق ولا إلى ذهن صاف، ولا إلى يقظة تامة.

وبعض الأعمال العلمية الأخرى، لا يكتمل حصوله على وجهه إلا إذا تم في الأوقات التي تصفو فيها الأذهان، وتنشط فيها القرائح والأفهام، وتكثر الاستعدادات الذهنية للتلقي، فينبغي أن تنتهز هذه الساعات الصافية، والأوقات المباركة لحل المشكلات العويصة، والمعضلات الصعبة، وتنقيح المسائل المتشابكة، وتصويب التصحيحات، والتعريفات المستعصية، واستنتاج العبارات الغامضة، وحفظ النصوص المستظهرة، وأمثال ذلك.

لكل زمن ما يناسبه

حسن التنظيم يكون بتوزيع العمل على ما يناسبه من الزمن.

اعلم أن للحفظ ساعات ينبغي لمن أراد التحفظ أن يراعيها (والتحفظ هو بذل الجهد في حفظ الكتاب أو غيره جزءاً بعد جزء)، وأن للحفظ أماكن ينبغي للمتحفظ أن يلزمها، فأجود الأوقات: الأسحار، ثم بعدها وقت انتصاف النهار، وبعدها الغدوات دون العشيات، وحفظ الليل أصلح من حفظ النهار، وأوقات الجوع أحمدُ للتحفظ من أوقات الشِّبع، وينبغي للمتحفظ أن يتفقد من نفسه حال الجوع، فإن بعض الناس إذا أصابه شدة الجوع والتهابُه لم يحفظ، فليطفئْ ذلك عن نفسه بالشيء الخفيف اليسير، ولا يكثر الأكل وأجودُ أماكن الحفظ: الغرف دون السُّفل، وكل موضع بعيد مما يلهي كما سبق ذكره.

ويتبعه أن ينتبه الطالب إلى ما تزين له نفسه بحجة الاطلاع على العلم ومستجداته أو أبحاثه، فينصرف إلى قراءة كتب -وإن كانت مفيدة- لكنها غير مطالب بها في أيام الامتحان أو الاختيار، فيترك لذلك الكتب التي سيسأل عنها في الاختبار أو الامتحان.

اقتضت حكمة الله تعالى أن يخص بعض الأزمنة بمميزات دون غيرها، وشاء سبحانه أن يفضل بعض العبادات المعينة في بعض الأوقات المعينة على ما سواها من العبادات، وهذه من آلاء الله سبحانه ورحمته بعباده، والموفّق من اغتنم هذه الرحمات، وتعرض للنفحات الرحمانية، وحرص إلى إيقاع المطلوب وأدائه فيها، فيحصل عند ذلك على أجر عظيم وثواب واسع، بالإضافة إلى شعور بالغبطة والسرور قلّ في غيرها.