لكل شخصية بيئة تتميز فيها رغم السلبيات


إحدى السمات المميزة للحياة تتمثل في أن كل واحد منا يتعامل مع الواقع المحيط به بشكل مختلف عن الآخرين. بعض الناس يعشقون الألوان المبهجة والسيارات السريعة، في حين يفضل آخرون الابتعاد عن كل ما له علاقة بالسرعة وكل ما يجعلهم يلفتون انتباه الآخرين.

وهناك مواقف اجتماعية يفضلها أناس معينون، وهي المواقف نفسها التي تسبب لآخرين القلق وعدم النوم لأيام طويلة.

البعض يعمل على توفير النقود أينما وجدت في حين يعمل آخرون على إنفاق كل ما لديهم من أموال. فمن أين تأتي هذه الاختلافات والفروق في شخصياتنا؟ هذا هو السؤال الذي تطرحه مجلة «نيو ساينتست» في أحد أعدادها الأخيرة.

تقول المجلة إن الظروف بلا شك تلعب دورا في اختلاف شخصياتنا. فبعض السلوك الإنساني يسهل تفسيره في إطاره الاجتماعي الذي وقع فيه. فعلى سبيل المثال وليس الحصر نجد أن الأفراد الذين يعيشون في مناطق محفوفة بالمخاطر البيئية غالبا ما يفكرون دائما على المدى القصير. غير أن الأمر الذي دائما ما يثير اهتمام علماء النفس في هذا الصدد هو اختلاف الأفراد فيما يستخدمونه بشكل مشترك، وهو الأمر المعروف بسمات الشخصية.

تورد المجلة في هذه الصدد دراسة علمية تفيد أن كل سمة شخصية تكون مفيدة في ظروف معينة وفي الوقت نفسه مكلفة وتنذر بالخطر في مواقف أخرى. فنحن، بحسب تعبير المجلة، كأفراد عاديين نجد أن هناك بعض أنماط الشخصيات لها قبول أكثر من سمات أخرى، الأمر الذي يعني أنه ليست هناك شخصية هي الأفضل على طول الخط.

إن الحياة هي سلسلة من المواقف المعقدة بين الأخذ والعطاء تابعة لتناقض الميول والمبادئ في العقل الباطن للفرد وان نضوج شخصيته يعتمد علي كيفية التفاعل مع هذه المواقف المتناقضة وقد افترض فرويد وجود ثلاثة مكونات لشخصية الإنسان هي إل«هو» و«الأنا» و«الأنا الأعلى» ويعد الأول مصدرا لغرائز اللذة كالموت والحياة وهو المصدر الحيواني من الإنسان بما فيه من شراهة وأنانية ومطالب لا تنقطع لأنه لا يعترف بواقع أو تقاليد أو قيود الزمان والمكان والأنا هو الذات التي تميز الإنسان عن غيره من الناس ويعد محوراً للشخصية ومن وظائفه السيطرة علي شراهة مطالب الـ «هو».

أما الأنا الأعلى فهو الجزء الأرقى والأكمل من الشخصية الإنسانية ويستمد طاقاته من المثل والأخلاق والعادات والتقاليد والمبادئ السامية، وبذلك يكون الأنا هو الطرف الوسيط في الصراع بين مطالب الـ هو والأنا الأعلى.

علماء النفس يرون سمات الشخصية باعتبارها«ترموستات» تعمل داخل الدماغ ولها سمة منها تنظم مدى من الأنماط السلوكية والتوجهات. بعض من هذه الأنماط السلوكية والتوجهات يبدو أنها مرتبطة كل بالآخر. فعلى سبيل المثل يتبين من خلال الدراسات السلوكية أن الأفراد الذين يتمتعون بسمات تنافسية عالية ويعشقون الموسيقى الصاخبة والسفر ترتفع لديهم الرغبة الجنسية. والأفراد الذين يعانون من الرهاب هم أكثر تعرضا للاكتئاب من غيرهم.

والأشخاص الذين يقابلون مشكلات في مقاومة إغراءات الكحوليات والمخدرات ترتفع بينهم احتمالية التعرض لمشكلات مع القمار وتطوير أنطة عدوانية في التعامل مع الغير بشكل عام. ومن واقع هذه المعلومات يتبين أن هناك عددا محدودا من الترموستات في دماغ الإنسان، وأن كل وحدة من هذه الترموستات تعمل بشكل مستقل، وتكشف وضعية هذه الترموستات المكان طبيعة شخصيته وأين تقف أنت من الآخرين.

خلال العقدين الماضيين، ظهر إجماع على حقيقة تفسر أن هناك خمسة ترموستات رئيسية هي التي تتسبب في معظم التغييرات التي تحدث في الشخصية البشرية. هذه الترموستات هي: الانبساطية والعصبية والضمير الحي والانفتاح وعدم الانطواء والقبول.

وبحسب الدراسات النفسية، فإن كل سمة من هذه السمات تظهر في موقف معين. فمستوى الانبساطية عند الشخص يتجلى غالبا في ردة فعله أو فعلها تجاه الأنشطة التي تتطلب مخاطرة أو متعة معينة، حيث يجد الأشخاص الانطوائيون هذه المواقف باعتبارها لا تحتوي على أي متعة شخصية.

وعلى الوجه الآخر يتبين أن الأفراد الذين يعانون من عصبية زائدة يشعرون بتوتر شديد عندما تظهر التحديات والصعاب في حياتهم، في حين أن الذين لا يعانون من العصبية لا يشعرون بالأمر نفسه.

أما السمات المرتبطة بالضمائر الحية فكلها مرتبطة بتحقيق الأهداف والتوجه. فأصحاب الضمائر الحية يلتزمون بشدة بالخطط الموضوعة والمبادئ في حين أن الذين تقل عندهم هذه السمة لا يكترثون كثيرا بالأمر ويتصرفون غالبا بشكل عفوي تلقائي. أما سمة القبول فتظهر بشكل كبير في العلاقات الشخصية.

فهؤلاء الذين تعلو لديهم هذه الصفة يدققون في احتياجات وعواطف الآخرين، في حين أن الذين تقل لديهم هذه الصفة لا يعيرون اهتماما بالآخرين وأحاسيسهم. أما الانفتاحية فتقرر ردة فعل الشخص على الأفكار التي تطرح عليه.

فهؤلاء الذين تتجلى عندهم هذه الصفة يميلون دائما إلى تبني أفكار متعلقة بالجمال والصور المجازية والمفاهيم التي تخص فئة قليلة وخاصة من المجتمع، في حين يتجنب الذين لا تظهر لديهم هذه السمة مثل تلك الأفكار والمفاهيم، ولكل سمة من هذه السمات جوانبها السلبية وأخرى الإيجابية. فارتفع نسبة الضمير الحي لدى الشخص قد يساعده على الحصول على وظيفة وعلى إنجاز عمله بشكل متقن.

غير أنها في الوقت نفسه قد تعميه عن إمكانات وفرص قد يستفيد منها الشخص الذي تتسم نظرته في الحياة بقدر أكبر من المرونة وليست لديه نزعة التدقيق والاهتمام بالتفاصيل مثل الشخص صاحب الضمير الحي. وفي الوقت نفسه، فإن الانفتاحية ترتبط بارتفاع نسبة النجاح لدى الشخص على المستويين الاجتماعي والجنسي.

مثل هذه الميزة قد تلقى قدرا كبيرا من التقدير في حقب تاريخية معينة تكون فيها الظروف الاقتصادية مواتية ويكون فيها تقدير للشخصيات ذوي الأحاسيس المرهفة، غير أن الأمر يختلف في المجتمعات التي تناضل فيها الشعوب من أجل كسب لقمة العيش حيث يكون هناك تقدير أكبر للأشخاص العمليين ذوي المهارات العملية العالية.

بل إن حتى الأشخاص العصبيين يمكنهم مواساة أنفسهم بالقول إنه عندما تكون هناك أخطار حقيقية، فإن درجة الحذر لديهم قد تفيدهم بشكل أكبر من هؤلاء الذي يتصرفون ببرود ولا يأبهون بمدى خطورة ما قد يتعرضون إليه.

وتخلص المجلة إلى القول إنه كلما زادت معرفة الشخص بطبيعة شخصيته، زاد وعيه بالفوائد التي يمكن أن يجنيها من خلال طبيعة شخصيته. ولا شك أن مثل هذه النتيجة قد تعيد إلى الأذهان من جديد السؤال القديم الجديد على حد تعبير المجلة الذي يفيد ما إذا كانت هناك إمكانية أمام الشخص لتغيير طبيعة شخصيته أم لا؟

الإجابة هي أنه إلى حد ما يمكن للفرد أن يغير شخصيته غير أن الأفضل من ذلك هو أن يعلم الشخص أن لكل نمط شخصية بيئة تناسبه بشكل مثالي. فإذا كنت تعاني الاكتئاب، فلماذا لا تحاول أن تغير هذا المكان الذي تحتله تحت شمس الحياة العصرية المعقدة التي نرزح تحتها؟