أطلقت الثورات العربية ما عرف بالربيع العربي، ولكنها أيضًا أظهرت اختلافات شديدة واستقطابات عديدة فيما يتعلق بالآراء والأفكار والرؤى من أجل بناء تلك الدول لنفسها بعد هذه الثورات، مما يشعرنا وكأن كل مجموعة صاحبة فكر معين تعيش في جزيرة منعزلة تتحدث مع نفسها لنفسها، بينما فريق آخر بفكر مخالف يعيش في جزيرته يفعل الأمر نفسه.
صحيح أن جو الحرية في أي مكان وزمان يجعل هناك تباينًا في الآراء ولكن يبقى التساؤل: هل هذا الاختلاف والتباين بما يدفع للعزلة مشكلة أم هو أمر طبيعي؟ فإن كان أمرًا طبيعيًّا فلابد أن نتفهمه؟ وإن كان مشكلة فلماذا لا نسمع بعضنا البعض؟ لماذا ينعزل كل واحد منا برأيه في جزيرته دون الآخرين؟
وسأحاول في هذا المقال ـ وربما في مقالات لاحقة ـ أن أفسر ما يحدث في عالمنا العربي من وجهة نظر علم الإدارة بحكم أن هذا تخصصي، ولاقتناعي الشخصي بأنه إن تحدَّث كل امرئ فيما يحسنه؛ فسوف يريح ويستريح.
فريق عمل ولكنه كبير!
حينما نتأمل في مراحل تكوين فرق العمل سنجد أن أي فريق عمل وإن كان يتكون من فردين أو حتى من عشرات فإنه يمر بمراحل أربعة هامة، ألا وهي:
1. مرحلة التكوين "Forming":
حيث يبدأ الأفراد في التعرف على بعضهم البعض، ويتفهم كل منهم طبيعة الآخر ويتعرف أكثر على مهام الفريق وأهدافه واستراتيجيته.
2. مرحلة العاصفة "Storming":
وهنا يبدأ الاختلاف بين أعضاء الفريق وهو أمر عادي ومتوقع وطبيعي ومنطقي للغاية؛ فلكل عضو خلفيته الثقافية والفكرية وعاداته وتقاليده ونظرته للحياة، ويحاول كل فرد أن يصبغ الفريق بطريقته.
3. مرحلة التناغم "Norming":
حيث يبدأ كل فرد في الفريق بتقبل فكرة أننا لابد أن نختلف وأن هذا الاختلاف يثري الفريق ويضع على طاولة العمل أفكارًا جديدة ومبدعة ويطور من الأداء للأفضل من أجل مصلحة عالية تجمع الفريق ككل.
4. مرحلة الإنجاز "Performing":
حيث تبدأ ثمار التناغم في النضوج لتتحول إلى إنجازات تترجم مهام الفريق وأهدافه إلى واقع مشاهد.
وبالمثل يكون حال المجتمعات فهي تمر بنفس تلك المراحل؛ لأن المجتمع فريق عمل ولكنه ليس مكونًا من عشرات بل من ملايين، وما تعانيه المجتمعات من عدم قدرة الأفراد على التوافق والتناغم لا يعني وجود مشكلة بقدر ما يعني أن هذه المجتمعات لم تنتقل بعد من المرحلة الثانية "العاصفة" إلى المرحلة الثالثة "التناغم".
فالمجتمع الياباني أو الألماني بعد الحرب العالمية الثانية عانى من انقسام سياسي واجتماعي رهيب، وصل إلى تكوين مئات الأحزاب السياسية مثلاً، ولكن تبقى منها في النهاية ثلاثة أو أربعة أحزاب، وتوافق المجتمع في النهاية واستطاع أن يصنع تقدمًا علميًّا وتكنولوجيًّا كبيرًا جعل من اليابان وكذلك ألمانيا دولاً عظمى واقتصاديات كبيرة.
من "2" إلى "3"!
وحتى يتمكن أي فريق "وكذلك أي مجتمع" من التناغم أي الانتقال من المرحلة الثانية إلى الثالثة، لابد له من أمرين هامين وهما:
1. ميثاق الفريق "Team Charter".
2. قائد الفريق "Team Leader".
وهنا يكمن التحدي الذي يواجهنا حينما لا نجيد العمل مع بعضنا البعض من أجل هدف أسمى من أهدافنا الشخصية ومصلحة أعلى من مصالحنا الشخصية، كيف نصوغ لفريقنا ميثاق يمثل مرجعية لنا؟ وكيف نصنع القائد الذي يستطيع جمع الأفراد ـ رغم اختلافاتهم ـ على هدف واحد وغاية واحدة؟
الميثاق:
وهي وثيقة مكتوبة تتضمن ما يلي:
1. مهمة الفريق.
2. مجال العمل.
3. أهداف الفريق.
4. مدة عمل الفريق.
5. النتائج المتوقعة.
ويقوم بكتابة هذا الميثاق إدارة الفريق، بالتعاون مع أعضاء الفريق، ويتم اعتماده من إدارة الفريق ويتم تطويره وتحديثه وتعديله كلما اقتضت الحاجة لذلك من أجل أن يمثل مرجعية يعود إليها الفريق حين الاختلاف.
إذًا إنها ليست فوضى:
وحينما نفهم الأمور على هذا النحو، نكتشف أن الاختلاف في الرأي حتى وإن كان حادًّا في مجتمع يتحسس أولى خطوات الحرية والعزة والكرامة، لا يعني الفوضى، وإنما هي نتائج تفرضها طبائع الأمور.
القائد:
أما المخرج الثاني فهو القيادة؛ فإن من أهم الأمور التي تميز القيادة هي أنها تسيطر على المشكلات وترسم الخطط اللازمة لحلها، فحين تضيق السبل وتتعقد الأمور؛ تتعلق الأنظار وتشرئب الأعناق نحو القيادة، فهي مخزن الحلول ومستودعها.
باختصار؛ يمكن أن نطلق على القائد بأنه ربَّان سفينة الحياة، فهو الطاقة الدافعة، والدفة الموجهة، ولعلنا نستطيع أن نلخص أهمية القائد في كلام "الأفوه الأودي" ذلك الشاعر العربي؛ حين يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سـراة إذا جـهـالـهـم سادوا
والبيت لا يُبتنى إلا علـى عـمـد ولا عماد إذا لــم تـرس أوتــاد
فإن تجمع أوتاد وأعــــمــدة وسـاكن أبـلغوا الأمر الذي كـادوا
صناعة القائد:
وهذا ما تحتاجه الأمة العربية والإسلامية بشدة خاصة في الآوانة التاريخية التي تمر بها، وهي أن تصنع قيادات قادرة على جذب الأمة إلى الأمام في كل المجالات: الدعوية والتعليمية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والسياسية وغيرها، ولكن يبقى السؤال: كيف السبيل؟
ثلاثية القيادة:
وحتى يتم صناعة قائد حقيقي قادر على النهوض بمجتمعه ولَمِّ شمل أفراد هذا المجتمع على كلمة سواء، لابد أن يتم إعداده في ثلاثة أمور هامة وهي:
1. المعرفة:
ونعني بها أن يكون القائد على وعي بما يجري حوله ويعرف شيئًا عن كل شيء، لا يكتفي فقط بنطاق عمله أو مجال خبرته أو دراسته، بل تتسع مداركه لغيرها من العلوم والفنون المختلفة.
ولذا لو تأملنا علماء الدولة الإسلامية وقادتها على مر العصور؛ لوجدناهم يجمعون بين العلوم الشرعية والإنسانية والتطبيقية بجانب مجال تخصصهم، فالحسن بن الهيثم مثلاً تخصص بعمق في علم البصريات وهو فرع من الفيزياء، ولكن كان لديه كثير من المعلومات في مختلف أنواع العلوم مثل الرياضيات والتشريح والفلك والهندسة والطب والفلسفة وعلم النفس وغيرها.
2. المهارة:
وهي قدرة الشخص على تحويل المعارف المختلفة إلى أدوات عملية تمكنه من تحويل الأهداف الكبيرة إلى خطط ومن ثم إلى مجموعة من الأنشطة العملية الواقعية، باختصار هي العصا السحرية التي يمكنها تحويل الإحلام الكبيرة إلى واقع كبير.
وتنقسم تلك المهارات التي يحتاجها القائد إلى عدة أقسام:
أ*.مهارات إدارة الذات "Skills Self Management": مثل إدارة الضغوطات وإدارك الذات والثقة بالنفس وغيرها.
ب*.مهارات التواصل "Interpersonal Skills": مثل مهارات الاتصال والإقناع ومهارات التفاوض ومهارات التقديم وغيرها.
ت*.مهارات فنية "Technical Skills": مثل إدارة الوقت والتخطيط والتنظيم الإداري وغيرها من المهارات الإدارية.
ث*.مهارات ذهنية "Conceptual Skills": مثل التركيز والذاكرة والإدارك والإبداع والتفكير الإيجابي وغيرها.
3. الصفات:
وهي من أهم دعائم صناعة القائد، والصفات النفسية ترجح كافة شخص على شخص آخر، فمعادن الناس تختلف وعلى قدر قلة نسبة الشوائب في أي معدن على قدر صلابة ذلك المعدن وتحمله ومن ثم يكون سعره وكذلك الأشخاص معادن، وعلى قدر سلامة الصفات النفسية من الشوائب تكون قوة أي قيادة وقدرتها على التأثير.
وتتضمن الصفات النفسية ثلاثة ركائز أساسية:
أ*.القيم:
ونعني بها تلك الأمور التي قد يموت المرء دون التفريط فيها، وبقدر قوة تلك القيم وركوزها في نفسية القائد، تكون نفاسة معدنه.
ب*. القدرات والإمكانيات:
وهي نقاط القوة لدى كل شخص وبقدر تطويره لنقاط قوته وتحويله لنقاط الضعف إلى قوة، تكون قوة شخصية هذا القائد وقدرته على التأثير.
ت*. الحوافز والدوافع:
وهي أمور تدفع الشخص إلى فعل شيء أو تمنعه عن فعل شيء آخر.
وعلى قدر ما يكون بناء الشخصية قويًّا من حيث المعرفة والمهارة والصفات النفسية يكون الشخص قائدًا بحق يتمكن من قيادة مجتمعه نحو الأفضل إن شاء الله.
وأخيرًا ... تذكر:
1. الاختلاف في الرأي طبيعي في أي مجتمع حر ذي سيادة، ولكن لابد من مرجعية يعود إليها الأفراد لحسم الخلاف.
2. ميثاق الفريق هو أحد الحلول المهمة لتحديد مهام الأفراد وكيفية التعامل بينهم وكيفية تعاملهم مع قائد الفريق، وذلك في أي فريق وكذلك في أي مجتمع.
3. القيادة هي الوسيلة الذهبية التي تجمع المجتمعات على كلمة سواء وتنهض بالأمم والشعوب