السعادة.. هل هي فقط تجنب الألم..؟؟
هل تنتخب السعادة أناساً من عمر أو نوع أو جنس بذاته، أو من مستوى دخل بعينه ..؟؟
هل تكمن السعادة في العلاقات الإنسانية الحميمة ..؟؟
أم في الإيمان الديني ..؟؟
وما هي الطرائق والأنشطة والأولويات التي تمنحنا ذلك الفرح بالوجود..؟؟
هذه الأسئلة لم تمض – فقط – دون إجابة من علم النفس التقليدي، بل هي بالأساس لم تطرح. إذ ركّز علم النفس جهوده على المشاعر السلبية البائسة أكثر من المشاعر الإيجابية.
فيمكن ملاحظة أنّه بين عامي 1967 و1995 اشتملت أدبيات علم النفس على 5119 مقالاً في ذكر الغضب، و38,459 مقالاً في ذكر القلق، و48.366 مقالاً في ذكر الاكتئاب. على الجانب الآخر احتوت نفس الأدبيات – فقط – على 1710 مقالات عن السعادة، و2357 عن الشعور بالرضا، و402 في اللعب. هذه النسبة (1:21) تتغير الآن. إذ يلقي الباحثون برؤى طازجة على تلك الحيرة القديمة. وهو السعيد؟ ولماذا؟ إذا كانت هذه المطاردة العلمية لماهية السعادة قد نمت بسرعة الفطر مؤخراً، إلا أن تأمل السعادة قديم في ذاته. والفلاسفة القدماء اعتقدوا أنّ السعادة هي انعكاس للذكاء، فـ(ليس من أحمق سعيد، ولا من حكيم ليس كذلك) كما يقول حكيم الرومان شيشرو.
وطوال مسيرة القرون اختلف الحكماء في رؤيتهم للسعادة، فبعضهم رأوها في الحياة الفاضلة، وبعضهم وجد أنها الانغماس في المتعة، وآخرون عرفوها كامنة في معرفة الحقيقة، وغيرهم أبصروها في معاقرة الوهم، وآخرون في الكبت، وغيرهم في التطهر من الغضب والألم.
وهكذا طويلة هي القائمة، والمعنى واضح!
لكن، لكي نكشف الحقيقة حول معنى السعادة، علينا أن نتساءل عن علاقة هذه الرؤى المتعارضة بالواقع. اختصاراً: أن ندرس السعادة علمياً.



- قياس السعادة (assessing happiness):





في استطلاعات الرأي المنعقدة حول الشعور الشخصي بالسعادة، يسأل الباحثون الناس: عما إذا كانوا سعداء أم لا، وكذلك عن مدى شعورهم بالرضا عن حياتهم. فمثل اليوسفي والبرتقال تختلف السعادة عن الشعور بالرضا، لكن تظل هناك روابط كثيرة بينهما.
وفي بعض الأحيان يضع الباحثون أسئلة بسيطة مثل:
كيف ترى هذه الأيام..؟؟
هل أنت سعيد جدّاً..؟؟
سعيد فقط؟ أم لست سعيداً جدّاً..؟؟
وما مدى شعورك بالرضا عن حياتك الآن ..؟؟
هل أنت راضِ جدّاً..؟؟
أم راضٍ فقط ..؟؟
أم لست راضياً جدّاً..؟؟
أم لست راضياً على الإطلاق..؟؟
باحثون آخرون يستخدمون اختبارات أخرى لقياس نسبة المشاعر الإيجابية السعيدة إلى المشاعر السلبية الكئيبة للأفراد.
وعلى غير المتوقع، تبين أن كمية المشاعر الإيجابية للفرد لا تنبىء بدقة عن كمية المشاعر السلبية التي يعانيها نفس الشخص. إذا إن بعض الناس يعايشون حالات مزاجية رائقة جدّاً، وأيضاً يكابدون حالات مزاجية سيئة جدّاً.
قمة القمة، وقاع القاع، وهناك آخرون سعداء بشكل خاص أو سوداويون أو محايدون وعلى الرغم من هذا التأرجح المزاجي، فإن هذا التقدير الشخصي حول الوجود اتسم بالثبات النسبي على مدار سنوات متتالية من القياس. هذا الثبات أو الاستقرار يرجح الأثر الممتد للصفات والظروف المحيطة، بينما يرجح التغير أثر الأحداث الجديدة في الحياة.
لكن هل تمتلك هذه القياسات المصداقية والثقة..؟؟
أم أنّ هؤلاء "السعداء" ينكرون مأساة حقيقية ..؟؟
إن هؤلاء الذين "أقروا" بأنهم سعداء وراضون عن حياتهم، بدوا كذلك في رأي أصدقائهم المقربين، وكذلك في رأي عائلاتهم ومقابلة المحلل النفسي. وبالمثل كان القياس المزاجي اليومي لهم يميل بقوة ناحية المشاعر الإيجابية السعيدة، فهم يبتسمون أكثر، ينفعلون أكثر بالأحداث جيِّدة كانت أم سيئة. ومقارنة بالسوداويين فإنّ السعداء بدوا أقل تركيزا على أنفسهم، أقل عدوانية وتعسفاً، وأقل عرضة للأمراض. بل هم محبون، متسامحون، حيويون، حازمون، مبدعون واجتماعيون متعاونون.
أحد هؤلاء الأشخاص من أصحاب القياس المرتفع في سلم السعادة، قال: "إنّ الشعور بالذنب والقلق لهم حيز ضئيل في حياتي، فأنا أستمتع بصحبة الأصدقاء، واكتشاف الأشياء الجديدة، ولدي ذلك الشعور الداخلي بالرضا. لا أعرف هذه التأرجحات المزاجية العنيفة، وأرى المستقبل جميلاً".
شخص آخر من أصحاب القياس المنخفض قال: "في عام 1985 قدرت ورتبت للانتصار، لكن حادثة دراجة نارية أخافتني منه. إن حالتي المزاجية غالباً سيئة، وأنا دائماً متوتر، ولا أحفل بما يفكر أو يشعر به الآخرون، انّه أمر شاق أن تكون مرحا". عشرات الباحثين في أنحاء المعمورة الأربع سألوا أكثر من مليون شخص – عينة كافية وممثلة للجنس البشري – عن مدى سعادتهم وشعورهم بالرضا عن حياتهم. فإذا أخذنا هذه التقارير جديا أمكننا تقديم بعض الإجابات التجريبية عن هذه الأسئلة المزمنة.
ما مدى شعور الناس بالسعادة ..؟؟
ومن هو الأسعد..؟؟







هناك تقليد قديم ينظر للحياة باعتبارها "مأساة" فمن سوفوكليس (Sophocles الذي كتب في "أوديب" في كولون (ألا تولد مطلقا، رغم كل شيء، أفضل" إلى وودى آلن Woody Allen في آني هول Annie hall– والذي يميز بين حياتين: المريعة والبائسة.
ألبير كامو، تينسي ويليامز، آلن درورى، وآخرون كثيرون من كتاب الرواية والمسرح يسجلون رؤاهم غير السعيدة بالإنسانية.
وبالمثل، الباحثون الاجتماعيون "إن آلامنا تفوق كثيراً متعتنا – يبدو أنّه جان جاك روسو Rousseau– وإذا أخذنا كل شيء اجمالا فإنّ الحياة: ليست هبة ثمينة" ويوافقه صمويل جنسون S. Johnson– نحن لم نولد للسعادة.
لكن، مؤخراً، ظهرت بعض الكتب الدافئة في (كيف تكون سعيداً؟) كتبها أناس قضوا أيامهم في معالجة غير السعداء. ففي (هل أنت سعيد؟) لدنيس هولي Dennis Wholey يفيد هاوجتون مفلن (Houghton Mifflin – 1986) أنّ الخبراء الذين التقاهم يعتقدون أن 20% من الأمريكيين سعداء. ويعلق هو قائلاً: كنت أعتقد أنهم أقل من ذلك.
وفي (السعادة عمل داخلي)/ تابور 1986، يقول الأب جون باول John Powell: ثلث الأمريكيين يستيقظنون يومياً مكتئبين، والخبراء يعتقدون أنّه من 10% إلى 15% من الأمريكيين سعداء بالفعل.
وهناك صورة أكثر وردية تشرق من معاينة الناس العاديين، ففي استطلاع قومي قال ثلاثة من كل عشرة أمريكيين إنهم سعداء جدّاً، وشخص واحد فقط من كل عشرة أمريكيين قال إنّه ليس سعيداً جدّاً. والباقون وهم الغالبية قالوا إنهم سعداء فقط. وبالسؤال عن الشعور بالرضى، إنّ الغالبية كانت على نفس الدرجة السابقة من التفاؤل. ففي أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية رأى ثمانية من كل عشرة أشخاص أنهم راضون أو راضون جدّاً عن حياتهم. وبالمثل فإنّ ثلاثة أرباع الناس العينة موضع البحث قالوا إنهم كانوا فخورين ومبتهجين بشكل خاص في وقت ما خلال الأسابيع القليلة الماضية. والثلث فقط كانوا يشعرون بالوحدة والملل أو الكآبة في نفس الفترة.
هذه التقارير الموضوعية شملت أناساً من كل الأجناس والأعمار وأصحاب الدخول الاقتصادية المتفاوتة، وتمسكت بالاستراتيجيات المتنوعة لقياس الشعور بالسعادة في أوقات عشوائية (الاستثناءات في هذه الدراسات كانت محدودة مثل:
مدمني الكحول من نزلاء المصحات، السود من جنوب أفريقيا زمن الأبرتايد، والطلاب الذين يعيشون في ظل احباطات اقتصادية وسياسية).
هذه النتائج الإيجابية تتعارض مع التوقعات السلبية للكثيرين. فدارسو علم النفس كانوا يعتقدون – بشكل خاطئ – أن كبار السن غير سعداء. وثلث هؤلاء الدارسين اعتقدوا أنّ الأفروأمريكان هم بالضرورة ليسوا سعداء. وتسعة من كل عشرة دارسين اعتقدوا أنّ العاطلين عن العمل غير سعداء.
لكن أليست معدلات الإصابة بالاكتئاب في ارتفاع ..؟؟
نعم هي كذلك.
فالباحث الإكلينيكي إيان جوتليب Ian Gottlib يقدر أن هناك 2% من سكان العالم يعانون من اكتئاب نفسي – يتطلب العلاج – سنوياً.
وفي أحد مؤتمرات الطب النفسي التي عقدت مؤخراً، وفي دراسة شملت مراكز طبية من بلدان مختلفة وجد أنّ الإنسان يقضي 9% من عمره مكتئباً. وذلك في أفضل الأحوال.