سادتي .. أنا ما أطلقتُ طيورَ أحلامي أسراباً إليكم هي حطّتْ على أكفِّكُمْ لمّا رأتْ لها اتساعَ البحرِ .. واخضرارَ الزيزفونْ ، حملتْ راحلتي إليكم حباً وخيراً وسلاماً من أهلنا في مصياف الجميلة تقديراً لنسيج سوريا الاجتماعي . شكراً
وبعد أن انعم اللهُ عليّ بالشفاءِ أصلّي لراحتِكُمْ من الآلام ... تلك التي أمضيتُها ليالٍ موجعةً بحق وتقديراً لقوةِ الألم الذي تقبلته بذراعيّ حين أعلمَني ولدي يوم اكتملِ تشخيصُ المرضِ قال لي ( بابا مرض خبيث( فأنطقنيَ اللهُ ( بابا الحمدُ لله ) وقلتُها من أعماقي وأنا سعيدٌ جداً بإيماني لأنَّه فقط هكذا وكنت أتوقعُ أن يكونَ أكثر من خبيثٍ وأنا لستُ ممن يرى انّ الأبديةَ هنا وبعضُكُم يعلمُ الكثيرَ عن إيماني فالأبديةُ هناك عندَ إلهٍ مقتدرٍ وما هذا سوى استفقادٍ من الله وتكريمٍ أحمدُهُ عليه واحمدُهُ أن لي هناك أصدقاء يشاركونَني في طاعتِهِ إيقاناً لا ميراثاً ويرفعون صلواتِهِم إليه ربما ليسَ بقصدِ الشفاءِ بقدرِ ما هو لتخفيفِ حدةِ الألمِ وفي الحالتين فهم عندي ملائكةُ نور ورحمة وشعورٌ عارمٌ بالطهرِ والمحبةِ وكل هذا وذاك راحةٌ بلا حدودٍ من الشعورِ بانَّ هناكَ من يحبُّ السلامةَ لجميعِ المرضى ، بل هناكَ من يشعلُ الشموعَ الى الربِّ تضرعاً .
أما عن هدوئي الداخلي فاعلموا سادتي ورغم كل مبرحات الألم استيقظ أحيانا على شعور أنسى فيه أنني مريض واشغل نفسي بالكثير من المتابعات على النت وانا بين استقرار علاج الأشعة وتقارير الجراحة وبين مراجعة بعض نتاج المعرفة ، وبعد أول مراجعة في الشهر السابع من 2006 أجريت فيها عمليات التنظير المرئي بالفايبرو ثم تصوير طبقي وحلزوني وأخيرا إيكو عنق وقلب وتحاليل مختلفة تبين أني برئت تماما من المرض حتى آذن المجلس الطبي بالكشف الشهري لمدة خمس سنوات متتالية لإتمام الشفاء .

الألم عندما داهمني على حين غرّة ، كنت استعد له فيما لو حلّ ضيفا سمجا على جسدي ، وخلالها أجريت كافة الاستعدادات النفسية للتعامل معه ،ولم يخونني حدسي ، وفي منتصف العقد الخامس صمتت الحنجرة ظنا أنها حالة رشح ثقيلة ، بدأت الرحلة الشاقة والمؤلمة والمضنية والمتعبة للغاية ، استطعت الغوص في عمق المسائل وتحليلها وفهمها ومواجهتها وبدا لي الأمر وكأني أقف أمام حوض عكرت مياهه مشاعر مختلفة أحركها بين الفينة والفينة ... كدت افقد قدرتي على التحكم بالذات لولا أن عادت المياه رويدا إلى صفائها ومددت يدي لبعض مخزون الاحتياط الكامن في أعماقي مستعيدا بعض آمالي التي خففت علي إعلان الحرب السرطانية الغاشمة الحاقدة بأثقالها المختلفة والتي خفف حسي السليم من ضغطها سيما وان الموسيقا كانت شغلي الشاغل مع بعض الاسترخاء بعد قفل الهاتف وجرس المنـزل خلوداً لعمق ذاتي وهي تُصور قوتي المعنوية ودعمها لجهازي المناعي في حربه المنتصرة ، وجلست والسرطان نظيران في العداء لا مثيل لهما ، وكل منا ينافس الآخر في يباس الرأس والعناد حتى فرضت المعركة نفسها علينا وهو متكىء على أريكته معتمدا الحنجرة مقرا يلوذ به وقاعدة آمنة لحركة قواته متى اراد ان يجول معي جولة أو مناورة ليلية ، وكنت لا أأمن له مكائده وخططه الهجومية حيث يعمل كل الجهد في نشر قواته أنـّى سنحت له الظروف ففكرت مليا في تطويق حربه بالسرعة والقوة المطلوبة وشتان ما بين القوتين .. سيما وإنني بالمقابل أواجه مشكلة علاقة أولادي وزوجتي بظرفي الصحي فالتمست من نفسي التخفيف من مخاوفي أمامهم ومن انفعالاتي وضيقي وانزعاجاتي لأنهم مقربون مني جدا وخائفون ، وفي لحظة فكرت لأول مرة بالهجوم المعاكس رغم انه ليس من سلوكي أي نوع من الهجوم فكل مسيرتي تتمحور حول الدفاع فقط ، ببساطة وهدوء .. أنا في غاية السعادة والموت محتوم ، وعلينا أن نقبل هذه الحتمية ونطرب لها ونرقص عوضا عن البكاء والنحيب ، ولنستمتع مابين المهد واللحد دون أي تذمّر ، وعندما أموت سأموت سعيدا لأني عشت حياتي بكل تفاصيل الرخاء والرضى ، رأيت أن لا مفر من التسلح بالعلم وقوة النفس لحسم الموقف وبدء المنازلة ، بحثت بقوة عن المواد العلمية التي تفي بالشفاء ، فلجأت الى طبيب إنسان مؤمن خلاق يحمل بين أضلعه كل معاناة مرضاه وآلامهم لا كلل ولا ملل ويتابعهم بجوارحه وعواطفه وما من مريض أسلمه عنانه إلا وشفي بعون الله.
وعدني الطبيب الانسان بمعجزة على أن أكون مطيعا لما يرسمه لي من منهج فالتزمت بإرادته ولم اتخلّ عما أضمرته تجاه هذا الدخيل اللعين حيث قرأت انه ستكون هناك بيننا معركة من نوع مختلف وبعد عدة مفاوضات على انسحابه من المعركة كان الرفض عنوانه الدائم .. رغم توقعاته انها ستكون معركة لم يشهد لها مثيل ، لكنه اليوم يواجه منفخته مع طرف جديد لايشق له غبار في حلبة هدر الاعصاب والدماء ، ستكون معركة شرسة وغير متكافئة القوى ستكون ضارية بامتياز ، ولابد من خوضها لقرائتي ان الموت لابد قادم ان لم يكن اليوم فغدا .. ومن هنا فلماذا لا يموت الانسان قويا عزيزا شريفا واقفا ؟؟ تم حسم الموقف بأن لابد من المعركة ، وقفت بمواجهته ووعدته بعد أن أقسمت بالله العلي العظيم ان تكون معركتي معه شرسة وضارية ولا هوان فيها وليكن سلاحي الأمضى الثقة بالنفس والتحكم بالذات ، وقبل أن يذرّ قرنه ويستفحل أمره دعوته للمنازلة فقبلها وتواعدنا ان نلتقي في زمكان مناسب في حلبة صراع لن يطول كثيرا لانشغالي في اعمال أخرى وخشية فوزه بالضربة الأولى اقتنصتها من يديه بشهب الأشعة النووية التي بدأت تتساقط على رأسه من كل حدب وصوب فأرديته أرضا بلا حراك من الجولة الاولى وأقولها بصدق .. شعرت من هذه الجولة ان المعركة ستحسم لصالحي ولا اقبل أي نوع من النقاش ولا مع أي أحد فالمسألة تخصـّـني شخصيا وانا وحدي المعني بالمعركة ولي حرية ادارة فكّي رحاها بالطريقة التي تمكنني من النصر على خصم تهيأ لنفسه اني مريض كباقي المرضى ،خسىء بحول الله فقد تمسكت بآي القرآن وبالعترة والآل حتى صورت لنفسي أني أصارع اليزيد ذاك الذي واعدته بحرب ضروس تشفيا للقربان الإلهي ( الحسين ع ) من خلال هذا التصور أدرك العلماء والأصدقاء وعبر كل الوسائط المتاحة مدى انشغالي في المواجهة متلمسين خيبة أمل ألفوها في مجتمعنا المغلق بأن اخفاقا لاح لهم وبأني لابد مهزوم حيال هذا الوغد لكنهم وثقوا ايضا بخطتي في لوي ذراعه قولا فصلا ..كثيرا ما شعرت بالذنب لأني احتكرت مطولا اهتمام الطبيب الانسان من منبت عشقي له منذ بدأ السجال العدو المارد سرطان خانم ، وأعرف أنني مع هكذا خصم يجب أن أكون بحجم شراسته .. حقا انه من أسوأ الانواع تصنيفا والأسرع انتشارا والأكثر خطورة وقد منحني يوم الكشف فقط عشرة ايام لأكون في ذمة الله .. هذا قرار المجلس الطبي بدمشق وفي مقدمتهم الدكتور عبد الحي عباس استاذ الحنجرة السورية ، وعشرة ايام لا تكفي لوضع خطة المواجهة او التعامل مع هذا الوافد الثقيل ولكن من يتق الله يجعل له مخرجا ..
بدأت جرعات الكيماوي تتسلل عبر السيرون الى دمي مخلفة عندي آثار الإقياء الشديد بينما حولت عند البعض الدم الى ابيضاض البشرة وشحوب الوجه ونحولة الجسد وبعدها بدأت جلسات الأشعة تنال من جسدي إرهاقا وتعبا تخلله نشاف الريق والحلق وتغيرت نوعية اللعاب وازدادت كثافتها وتحول طعم الفم الى حالة كريهة حجبت عني إمكانية تذوق الطعام بل وحرمان عملية قبول الطعام ( طبيعيا ) كباقي أهل السلامة سوى عن طريق استخدام خلاط كهربائي يؤمن طحن الطعام لدرجة السائل فكان هذا حلا وسطا بين استمرارية المعركة واستمرارية الحياة لكن الخصم اللئيم اعتبر ان هذه العمليات هي نشوة نصر في نزالاته معي وأنا تجاوزت نصره الكاذب لاشعوريا وبدأت عندي استراحة المحارب .. تلك التي خصصتها لآخرين لأني اعلم يوما بهذا اللقاء حتى لا ينسج لكم السرطان خيوط الفجر ويباغتكم ويوقعكم فريسته الثمينة ، رأيت ان تكون استراحتي معكم لأنه يجب ان يكون لديكم خطة مواجهته خاصة أن المنازلة هي منازلة نفسية أكثر منها منازلة ميدانية او مشادة كلامية .. فرأيت أن أتوجه لكم ببعض النصح من زاوية المحبة الخالصة لنصركم على هذا الغضب البيولوجي فتذكرت مقولة للدكتور فيليب سالم أرسلها لي من مختبراته في واشنطن : الجهاز المعنوي القوي.... يكفل عظمة الجهاز المناعي ........لسحق أي نوع من أنواع السرطانات......... وأي أمراض أخرى
تجربة شخصية
الكاتب : هشام الحرك باحث سوري