وكانت ليلة...
وجوه كثيرة اختلفت في السمات و توحدت في التعبير المميز ليوم ماطر تجلى في عقد الحاجبين و زم الشفاه الغليظة منها والرقيقة لتبدو جميعها في هيئة واحدة تشبه عقدة بالون وردي اللون يتهيأ للإنفجار.
أخذت شكله الوجنات المنتفخة تحت تأثير مياه الأمطار الغزيرة و نفحات ريح كانون الدمشقية.
رصت الحقائب وأغلقت المظلات و صعدت الحافلة الملابس الداكنة تعتمرها وجوه بسمات أوضح وتعابير مختلفة .
فلا الجو الماطر و لا الريح القارصة استطاعت أن تمحو مسحة الفرح من عيون الوجوه ذات القلوب الدافئة.
وما زاد الجو الكئيب الوجوه ذات القلوب المنكسرة إلا حزناً و تقطيبا.أخذ كل مكانه وفق بطاقة جلوسه و صعد أخيرا سائق الحافلة ومعاونه .
خرج صوت المعاون دافئاً مبشرا بانتهاء زمن الانتظار معلنا بداية رحلة السفر الطويلة متمنياً رحلة هادئة و سفراً موفق.
- هل سنرى وليداً بصحة جيدة ؟؟؟
- تفاءل بالخير يا أبا وليد.
- كم اشتقت للزوجة و الأولاد أنا سعيد لأن الليلة ستكون مميزة و سأدخل عليهم بأسعد خبر يتمنون سماعه منذ زمن بعيد فقد أمنت ثمن مسكن جديد يضمن لهم أسباب الصحة و العافية و الحياة الكريمة.
- حقق الله مبتغاك و أدامك فوق رؤوسهم
بهذا الدعاء الصادق أنهى المعاون الحديث الذي دار بينه و بين السائق و جلس في مكانه يرنو للأفق عبر نافذة مقعده الصغير
و مع موجة الدفء و الطمأنينة التي سرت في أجساد و نفوس الركاب بدؤوا بخلع معاطفهم وستراتهم الجلدية واسترخوا في مقاعدهم يتأملون غروب الشمس الشاحب في شفقها الرمادي الذي أضاف خدراً لذيذاً إلى أجسادهم المنتشية.
انطلق صوت المذياع يصدح بأغان للراحل عبد الحليم حافظ حركت الشجن والفرح و الألم والغبطة في النفوس الهادئة .
ومع زحف الليل الوئيد و انغماس الكون البطيء في خيوط السكينة و الظلام ازداد غرق الركاب رويداً رويداً في خلجات ذاتهم في آلامهم و آمالهم لتطغى باطراد على همسات الألسن و نغمات المذياع حتى ساد صمت عارم ترافق مع ظلام دامس لا تضيئه إلا أنوار الحافلة التي تبدو كعيني ذئب لا يرهب الليل ولا الطرق الوعرة ناهبة الطريق في سعي حثيث للوصول في الموعد المحدد.
رفت عينا الذئب بضغطة من يد السائق على زر الإنارة و أعطت ومضتين متلاحقتين تبعهما تعليق عاجل من سائق الحافلة يدعو فيه معاونه ليتوجه نحو الباب كي يدخل الرجل العجوز المتشح بالسواد ذو اللحية البيضاء الواقف على قارعة الطريق و يجلسه في مقعد شاغر .
لبى المعاون النداء بسرعة و توجه نحو الباب و هو ينظر حيث أشار السائق بيده اليمنى توقف خلف الزجاج و أعاد النظر عبره ثانية إلى الجهة اليمنى من الطريق و التفت في حيرة إلى السائق الذي كان يهم بإيقاف الحافلة و سأله بصوت خفيض:
- أي شيخ يا أبا وليد؟
- ماذا دهاك ؟ إنه هناك عند قارعة الرصيف تحرك بسرعة ألا تراه و قد غمرته المياه أنتركه هكذا و هو شيخ ضعيف سنركبه حتى لو اضطررنا لإجلاسه في مكانك.
أمعن المعاون النظر مرة أخرى و عندما لم ير شيئاَ أذعن للأمر مشككاًَ في قدرته البصرية .
توقفت الحافلة فجأة و تململ الركاب النيام و نصف النيام في أماكنهم و توجه المعاون نحو الباب الذي فتح تلقائياً و لما لم يصعد أحد نزل من الحافلة و راح ينظر يميناً و يساراً و ينادي بأعلى صوته:
- أيها الشيخ... أيها العجوز لكن ما من مجيب .
صعد مرة أخرى للحافلة و تحرك نحو السائق وسط العيون المعلقة به المستنكرة و المستغربة نادى على أبي وليد فوجده منكفئاً على وجهه فوق مقود الحافلة نادى ثالثاً و رابعاً و عندما لم يجبه هزه بقوة فوجده ميتاً هنا ندت عن المعاون صرخة دهشة و ذهول و خوف مرير فتراجع مجفلاً من هول ما رأى.
فتحت العيون المغلقة و جحظت العيون المفتوحة و جفت الحلوق و بقيت الأسئلة المتناثرة هنا و هناك عالقة في الهواء دون إجابة ارتدت صرخات الفزع حارقة إلى الأجواف الخالية تماماً إلا من شعور واحد أخذ ينمو و ينمو و يتكاثف مع الأنفاس المترددة حتى غمر جو الحافلة بالذهول و الرهبة و الخشوع.
لحظة مريرة توقف فيها كل إحساس بالماضي و الحاضر و المستقبل ترفعت فيها كل نفس عن كل محسوس.
انطفأت أنوار الحافلة و غاب ضوء القمر خلف سحابة سوداء و هدأ هدير المحرك فازداد صوت قعقعة المطر و الرعد وضوحاً في الآذان رافقه عواء ذئاب الجبل معلناً حلول منتصف الليل ...و كانت ليلة...
للكاتبة م .مي زيادة
المفضلات