وسقطت الأمطار فى حجرتى
لا اعتقد ان هناك مكان اجمل من موطنى هذا ...الأندلس .... جنة الخلافة الأموية وزهرتها الفواحة وهذه الخضرة الراقية والحدائق المزهرة حببتنى فى القراءة والإطلاع وقد سبقهم الى ذلك حواديت جدتى فى صغرى ..كنت اعشق ان ارقد فى حجرها استمع الى قصصها الكثيرة ...ولما شببت... ووعيت ... عرفت ان هذه القصص , وهذا الرجل الذى احببته منذ صغرى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ..واكثر حكاياتها تشويقا كانت حكايات الإسراء والمعراج..وكلما تخيلت رجلا – صلى الله عليه وآله وسلم – يطير على ظهر فرس ...طار خيالى معه.

لماذا لا نطير فنرى العالم اوسع ..واكبر ..وارحب ؟؟ وكلما غفوت ارانى وسط النسور احلق عاليا فى السماء والهواء البارد يداعب وجهى وكتلة السحاب الهشة الطرية تسيل على شفتى وتلتصق بجبهتى ..فاصحو نشيطا فرحا تداعب نظراتى القبة الزرقاء
وظل ولعى وشغفى بالقراءة بوجه عام وبدراسة العلوم التطبيقية المعروفة حتى زمانى هذا هو محور اهتماماتى الأول ...وترجمت عن اليونانية التى اجدتها كتبا كثيرة فى الفلك والطب والفلسفة.
وعكفت على دراسات وابحاث وتجارب... ويوم ان صنعت الميقاتة ..... او الساعة كما تسمونها ..لأحدد مواقيت الصلاة ظننت انى بلغت اوج مجدى وقمة ادائى ...رأيته عملا جليلا جميلا ان استطيع مساعدة المسلمين فى معرفة اوقات الصلاة بدقة عالية فيرتفع الآذان فى نفس اللحظة على كل المآذن الشامخة ...
ولكن ظل حلم السماء يطاردنى ...وفكرة التحليق مع النسور ...وطعم فطيرات السحاب التى لكتها نائما تداعب حلقى وحواسى .

وبدأت اصنع طائرة .... لم اكن اعرف وقتها ان هذا سيكون اسمها ..انا كنت اصنع وسيلة للطيران والتحليق .... لأمتطى الهواء واطير
فصنعت جناحين كبيرين من الريش و جعلت لهما اربطة من شرائط الحرير الرقيق حتى لا تشكل وزنا ... وكل ليلة انظر اليهما ..... حتى كنا ذات صباح مشمس وبينما كنت استعد لصلاة الظهر ...قررت فجاة ان اطير ..فحملت جناحى وذهبت الى مسجد قرطبة ...ثم صعدت الى المئذنة ..بل الى اعلى نقطة فيها ..والمسجد اصلا مقام على ربوة عالية وفوق الإفريز الحجرى وقفت معتدل القامة ..وقد ضممت جناحاى الى جسدى ...ثم اغمضت عيناى واخذت زفرة قوية من الهواء الندى البارد ...وفردت شراعى وقفزت مغمض العينين ....
وشعرت بتيارات باردة وبلمسات رطبة واردت ان انظر ولكنى تخوفت الموقف وتهيبته ...... ثم تذكرت ان تلك لقطة لا يجب ان تضيع صورتها من خيالى ...فرايتنى اطير ..نعم كنت اطير ... محمولا على بساط الطبيعة ...خفيفا ..منتعشا ...فصرخت بلا صوت وضحكت دون ان افتح فمى ........ ولست ادرى متى افقت ..!! ولكنى كنت متألما بشدة وعيون من حولى ترقبنى بدهشة واستغراب ...لا يخلو من سعادة وانبهار. وسمعت اصوات كثيرة ..وضجيج ولجة وانا بين اليقظة والغياب : لقد طرت يا رجل ....... والله حسبناك طائرا من عالم آخر ............ هل انت آدمى؟؟؟؟؟ انه ابن فرناس العالم ....... هذا رجل به مس من جن ...... اقتلوه او اطردوه من دياركم ........... هذا به جنة...... احسنت يا صاح ..... هذا فتح للعالمين ..... هل استطيع ان اطير مثلك؟؟؟؟ هل ستكررها؟؟؟؟ متى يا رجل؟؟؟؟؟؟؟؟

كلمات وكلمات واراء وافكار ........... وانا لا ارد ولا ارى وجوههم كان الألم كبير ورأسى ثقيل فغبت فى عالم آخر.............
ولكنى فعلتها ..... مشكلتى الوحيدة انى اخطأت فى حسابات الهبوط ..ربما لعدم دقة قياسات قوة الأرض وشدتها؟؟؟؟ لا يهم ..... كل ما يهمنى اننى حلقت بين الطيور.
اثناء فترة تمريضى ..كنت راقدا على ظهرى ..لا ارى إلا سقف حجرتى ..وليس لى من تسلية سوى دفتر التقويم الفلكى الذى ارسله الى الأمير ...ومع فراغى الإجبارى واقامتى التى حددتها الإصابة جبريا بدأت ادرس الظواهر الكونية واضع لها اسس وانظمة وقد واتتنى فكرة ناعمة اثناء رقادى وتحديقى فى السقف فكان ان اظهرتها للنور حين تحركت.
"ذات الحلق"
سماء صنعتها بنفسى فى سقف حجرتى ..ووضعت كل افكارى وتجاربى عن الظواهر الكونية موضع التنفيذ..فتلألأت النجوم والكواكب ودارت الشمس تلقى بنورها على سطح الأقمار السيارة من حولها فى سمائى.
وجاءنى الناس من كل مكان ليشاهدوا هذه العجيبة ...... ولكن كانت هناك بقية لتلك القبة السماوية المنزلية تمنيت من الله ان يوفقنى فى انجازها.
وذات فجر ...بعد صلاتى وانا قابع امام جهازى الكبير وبعد ان ربطت آخر مساميره رفعت راسى داعيا الله سبحانه وتعالى ان تنجح تجربتى هذه المرة فلقد اتعبتنى الفكرة فشلا واتعبتها تصميما على النجاح .... كنت اراها أملا بالخير والرخاء .... واطلقت الشرارة وانتظرت لحظة ظننتها ساعات ............. ثم زمجر الرعد وانطلق البرق فى سمائى , وفجأة سقط المطر فى حجرتى ...وبللنى وارتميت فى احضان الأرض ساجدا..... شاكرا ...

هذا انا " ابو القاسم " عباس بن فرناس بن ورداس القرطبى ....نسى الناس عنى كل شئ ولم يذكروا بعد موتى إلا اننى ذلك الرجل الذى حلق طائرا فى سماء قرطبة ....وكأن الأرض لم تكن تناسبه.