حروب - جهل .. تخلف .. أزمات مختلفة
سلام - علم .. تقدم .. إبداعات متنوعة
وأمتنا تعيش بين واقع مؤلم ونظرة متفائلة
هذا الواقع بدأ منذ فترة ليست بالقصيرة ...بدأ من تقهقر الدولة العثمانية وما صاحبه من أزمات متفاوتة ..إلى أن تدهورت أحوال الدول الإسلامية .

ثم استيقظ المسلمون أو بشكل أدق استيقظ بعض المسلمين فبدأت آراء ومحاولات وتحركات ، لدفع الموج الراكد وهز الأجساد النائمة ..
وإن اختلفت الرؤى وطرق العلاج
من رفاعة الطهطاوي إلى محمد إقبال إلى محمد عبده و مالك بن بني

إلى تبني مؤسسات المجتمع المدني لنهضة دولها وبالتالي نهضة الأمة .

وحديثي هنا عن الدور الفردي أي ما يمكن للشخص أن
يفعله كي يشارك في بناء و عمارة جسد هذه الأمة

من خلال أسرته .. من خلال عمله ..
من خلال إحدى الجمعيات المشارك بها أو التي يقودها ..

بعض من اهتم بدراسة نهضة الأمم وكيفية السبيل لذلك ، جعل من القيم إحدى أهم ما تستطيع به الشعوب أن تلحق بركب الحضارة وتحاذي من سبقها.
وهو ما أرى أن للفرد باب واسع يستطيع طرقه و الولوج فيه .. وبالتالي أن يكون مؤثراً في مجتمعه ..

إحدى تعريفات القيم :
مجموعة من النظم والأعراف و القواعد الحاكمة التي تحدد أو تؤثر في توجيه سلوك الشخص . إذا من الممكن أن نؤثر في سلوكيات الأشخاص من خلال غرس لقيم معينة .

وهذا ما تفعله في كثير من الأحيان أجهزة الإعلام المختلفة سواء أصحاب المبادئ السامية أو ذوي الأهداف الدانية .

لكن إن قصرنا على دور الفرد في إحياء أو غرس القيم ، فسيكون من خلال عنصرين ، وهما القدوة و التكرار .
أن يكون هو.. أي الداعي إلى القيمة قدوة في سلوكه للفكر الذي يحمله . فيرى من حوله تلك القيمة مجسدة في تصرفاته وتعامله .

فالأب أو الأم في البيت يرى أبناؤهما تلك القيمة المراد غرسها في أعمالهما قبل أن ينطقا بها.

وصاحب المؤسسة أو مديرها يشعر الموظفون بتلك القيمة في تعامل المدير. .في قرارته ..في اجتماعاته..

العنصر الآخر لغرس القيمة هو التكرار، تكرار الحديث عن مفاهيم تلك القيمة ..عن إيجابياتها ..عن سلبيات تركها.. عن آثارها
استضافة عدد من الخبراء أو المشايخ للتحدث عنها.. لصق شعارات متنوعة لها

و للتوضيح أكثر أذكر هنا مثالين لتلك القيم ، وما يمكن أن نتحدث به ونعمله لغرس القيمة

1- قيمة الإتقان
وممكن أن نعبر عنه الآن بالجودة وهو ما عبره عنه الإسلام بالإحسان والإتقان وإن كان الإحسان أعم من ناحية المعنى و من ناحية التطبيق حيث تشمل العبادات وغيرها .

قال تعالى (.. الذي أحسن كل شيء خلقه ..)

مِن خلق السماوات العظيمة والأجرام الفلكية الكبيرة إلى خلق الإلكترون المتناهي في الصغر والذي يدور حول نواة لم يرها أحد .. نرى الإحسان والدقة العجيبة
في الحركة .. في السرعة .. في الموقع ..في تكامل عمل الأجزاء

كل ذلك بحسابات دقيقة لو اختلت اختل النظام ككل ..

فما بال المسلم في كثير من أحيانه أبعد ما يكون عن والاحسان و عن اتقان عمله .. يريد أن يؤديه ، هذا إذا أداه ،على أي صورة كانت .. وبأي شكل ظهر..

إن الله تعالى قد كتب الإحسان على كل شيء.

تمعن في هذا الحديث (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا
القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) رواه مسلم


هنا الإحسان إلى الإنسان بأن الله سبحانه أحل له ذبح حيوان وان كان ضرر له لكن منفعة الإنسان مقدمة .. وأمره أن يُحسن في قتله أو ذبحه ... فكيف بأعمالنا الباقية .
والقتل بالسيف أريح للقتيل و إن كان أسوا للشاهد لذلك البعض يراه وحشيا من قصر نظره .
إن الله سبحانه وتعالى وعز كتب الإحسان على كل شيء..
- فالإحسان إلى الذبيحة أن تحد الشفرة ويستعجل في ذبحها كما جاء في الحديث آخر .
- والإحسان في العبادات أن تقام كما يريدها المولى سبحانه بخضوع وتذلل وإكمال أركانها وواجباتها .

- والإحسان في العمل أن يؤدى على الصورة المطلوبة على الأقل.

- والإحسان في المعاملات التي تخص الآخرين أن تعمل بحيث ترضيهم ولا تضرهم بتأخيرها أو بتحويلها إلى دائرة أخرى .

وجاء في الحديث أيضا ما يوضح محبة الله للذي يتقن عمله .
(إن الله جل وعز يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ) رواه البيهقي

وإن كان هذا الحديث قد تكلم فيه العلماء إلا أن له عدد من الطرق

وحدث أبو كليب أنه شهد مع أبيه جنازة شهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام أعقل وأفهم فانتهى بالجنازة إلى القبر لم يمكن لها قال : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سووا لحد هذا حتى ظن الناس أنه سنة فالتفت إليهم فقال:
)أما إن هذا لا ينفع الميت ولا يضره ولكن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن) حتى في هذا المكان في حفرة لن يراها أحد ولن تنفع أو تضر فمع ذلك فالإتقان مطلوب وإجادة العمل مهما صغر يذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام .
فكيف بالأمور التي في عدم إحسانها ضرر على الآخرين
شتان بين ما يدعوا إليه الإسلام وبين ما عليه أهل الإسلام .

فرق بين مبادئ ديننا العظيم وبين ما يطبقه من يتبع هذا الدين .
فإن أراد الأب يتقن ويحسن فعليه أن يهتم بزوجته ويحسن توجيهها
ويهتم بتربية أبنائه وبالإنفاق عليهم .

وإن أرادت الأم أن تتقن وتحسن فلا بد لها أن تحسن تبعلها لزوجها بطاعته بالمعروف وحسن معاشرته
أن تعتني بأبنائها وتربيهم التربية القويمة

وإن أراد المعلم أن يتقن ويحسن
فحرى به أن يجعل من التعليم رسالة سامية بحسن شرحه وتسهيل المعلومة للطالب وغرس حب العلم في نفوس تلاميذه ..
وتعليمهم كيف يتعلمون.

وإن أراد العالم أن يتقن وحسن
فيكون ذلك بالإخلاص لله سبحانه وتبليغ ما علمه للناس بالتي أحسن
وأن يكون قدوة حسنة لغيره .

وإن أراد التاجر أن يتقن ويحسن
فبأمانته ... وعدله ... ومشاركته في تنمية مجتمعه...

وحديث آخر يرينا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الاتقان . حين مر على غلام لا يحسن سلخ شاة .

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بغلام يسلخ شاة فقال له رسول الله صلى اله عليه وسلم (تنح حتى أريك ) فأدخل يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارث إلى الإبط وقال : يا غلام هكذا فاسلخ). رواه ابن ماجه

ولنرى مثالا من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية في إتقانه للعمل وحسن أدائه .

في هجرته عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة ..
نرى الدقة في التخطيط وحسن التنفيذ و الاتقان في سد أية ثغرة ممكن أن يوغل منها المشركون .

فعند هجرته توكل واعتمد على ربه خرج أمام الكفار وتلا قوله تعالى (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون )

اتخذ معه رفيقا وهو أبو بكر الصديق .
توجه بداية جنوباً عكس طريقة المدينة .
ثم مكث في غار ثور ثلاثة أيام حتى يقل الطلب.
عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق كان يأتيهم بالمعلومات يوميا عن قريش .
عامر بن فهيره يمسح برعيه للأغنام آثارهم وآثار ابنا الصديق عند مجيئهم ورواحهم .
استأجر دليلاً وان كان كافراً عبد الله بن أريقط يدلهم الطريق .

جاء في كتاب نضرة النعيم (إن الإحسان يقتضي من المسلم اتقان العمل المنوط به اتقان من يعلم علم اليقين أن الله عز وجل يطلع على عمله . وبهذا الاتقان تنهض الأمم وترقى المجتمعات ).
مما سبق في حديثي عن الإتقان هو أمثله لما نستطيع أن نتحدث عنه و نعمله عند إرادتنا غرس تلك القيمة سواء في بيوتنا . في مؤسساتنا .. في المدرسة .. في الحي .
إضافة إلى اختيار شعارات وملصقات عن تلك القيمة وإشراك من أدعوهم ..بالأفكار .. وبطرق إحياء وغرس القيمة .

2- قيمة الطموح
كثيراً ما أسال الشباب أثناء الدورات عن آمالهم وأهدافهم ..وتصدمك الإجابات إذ أغلبها :
أن يتوظف..ثم يتزوج ويمتلك منزلا ..

وقليل من يذكر أن من أهدافه..
إقامة مشروع خيري..
أو تغيير في مجتمعه ..أو أن يصبح مؤلفا .. شاعرا .. مفكرا ..

وبالتالي نحن بحاجة إلى غرس هذه القيمة والتي لا شك أنها تصب في نهضة الأمة وارتقاء منزلتها .
(والطموح أن ينزع الإنسان إلى معالي الأمور ويعمل على تغيير حاله إلى ما هو أسمى وأنفع . وكلما نال مرتبة نظر إلى ما فوقها . ولا يكون ذلك محموداً إلا إذا وافق الشرع الحنيف) نضرة النعيم .

ولنعلم منزلة هذه القيمة في ديننا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها . ويكره سفسافها ) صحيح الجامع.

تأمل ... طموح نملة في إنقاذ قومها
(.. يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون )
عندما رأت تلك النملة جنود سليمان يطئون واديهم. فخشيت على قومها .. فنادت النمل.. وأعطتهم الحل بأن يدخلوا مساكنهم .. لم تحذر فقط .. فكان أملها أن تنقذ قومها .

وانظر إلى طموح هدهد سليمان بإسلام أهل سبأ عندما استنكر عبادتهم للشمس وقال (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبأ في السموات والأرض .. الآية)

واستمع إلى حديث عمر بن عبد العزيز (يادكين إن لي نفسا تواقة لم تزل تتوق إلى الأماره فلما نلتها تاقت إلى الخلافة فلما نلتها تاقت إلى الجنة )

و تمعن في طموحات معاصره .
غلام يتمنى لو أن هناك جهاز يعطي أشرطة نافعة إذا وضعت به نقودا كما هي أجهزة المشروبات .

وأخر يأمل أن يتخصص بالبرمجة كي ينتج برامج خاصة بالأطفال .

وتفكر في طموح الدكتور عبد الرحمن السيمط
في دحر الجهل في أفريقيا ودعوتهم إلى الإسلام مع تعليمهم وعلاجهم.

قيم كثير نحتاجها في مجتمعاتنا و مبادئ عديدة نتعطش إلى اعتناقها لكي ننهض و نرتقي فلنبدأ في عمارة جسد هذه الأمة .


منير الخالدي