الفرق الأدبي بين القطّ البريطاني ومثيله العربي!
لا يبدو العنوان باعثاً على السّخرية، فالأمر - أو لنقل «الشَّأن القططي» - قد يُدخل النّار، كما يروي الأثر النّبوي عن امرأة دخلت النّار بسبب قطّة حبستها، ولم تترك لها خيارًا غير الجوع حتّى الموت.
عند أوّل زيارة لك إلى لندن ستتوقف كثيراً عند «حياة القطط»، وقد تتمنى لو أنّك قطّة تنعم بالعيش الرّغيد والسّكن السّعيد.
ومثل هذا الأمر لا بد وأن يبعث موازنة خضراء، تكون موزّعة بالتّساوي على أحوال القطّ العربي والقطّ البريطاني، على اعتبار أنّ القطط هي المرآة العاكسة لثقافة الشّعوب، ومحاكية لتصرفاتها.
وأوّل الموازنات التي تبرز هي «الهيئة والشّكل»، فالقطّ البريطاني سليم الجسم، ومعافى البدن، كامل الأعضاء، في حين أن نظيره، أو لنقل «أخوه غير الشّقيق»، وأعني العربي لا بد وأن يكون مدهوس الذّيل، أو أعرج القدم أو مبتور اليد، «ومفضوخ العين» أو منتوف الشّارب، ناهيك عن التّشوّهات الأخرى.
وثاني الموازنات أنّ القط البريطاني (Friendly)، يعايشه النّاس ويعيش معهم، ويجلس بينهم ويضاحكهم، ويستقبلهم بالتّبسّم، ويتابع معهم «البرامج التّلفزيونيّة»، ويبتسم مع اللّقطات المضحكة، في حين أنّ القطّ العربي يبدو مرعوبًا ممّا حوله، لا تشاهده إلا مهرولاً، أو راكضًا، متوجّسًا من رمية حجر، أو ملاحقة طفل، أو دهسة سيارة عابرة، إنه قطّ يشعر بالوحشة من النّاس، معتبرًا نفسه في حالة حرب دائمة لا تنتهي إلا بموته.
وثالث الموازنات أنّ القط البريطاني مرتب النّسل، لأنّ الهرة الحامل تشعر بالأمان وتجد الرِّعاية، علاوة على أن الحمل لا يتمخض إلا عن مولود أو اثنين، سليمي الجسم والبصر، في حين أنّ القطّ العربي فوضوي النّسل، ولا هم «للهرة الحامل» إلا البحث عن مكان آمن لتنفيذ عملية الولادة، وغالبًا ما تتمخض الولادة عن سبعة أو ثمانية أو عشرة قطط.
ورابعة الموازنات، تأتى من حيث الطَّعام، فالقطّ البريطاني يتناول ما لذّ وطاب من الأطعمة والأشربة، ولا تخلو «البقالات» في بريطانيا من جناح يُعنى بشأن القطّ ويلبي احتياجاته، وهذا الأمر بدوره أورث القطّ البريطاني شيئاً من «الاتكاليّة»، وعوّده على «سلوك التّنبلة»، وفي الجانب الآخر نجد القط العربي «عصامي»، يتصيّد فاراً هارباً، أو «ينبش زبالة» هنا، أو يتحرى جراداً هناك، إنّه «طوّاف»، يشمّر عن ساعديه، وقد يهلك بسبب بحثه مع معيشته، إنّه يخرج في الصّباح وهو يلعق المرارة .
وخامسة الموازنات أنّ القطّ البريطاني يقبل الآخر، ويتعايش مع الكلب في منزل واحد، ولا يمتلك الحقيقة، إنّه قطّ ديمقراطي، أكثر من ذلك إنّه قطّ صامت، لا تسمع له همسًا أو حسًّا. في حين أنّ القطّ العربي في صراع مع القطط التي تجاوره ولا تستغرب إذا سمعت أنّ مجموعة من القطط اجتاحت القطط المجاورة واستولت على «مدخراتها »! إضافة إلى ذلك إنّه لا يتمتع بفضيلة الصمت بل هو يملأ الشّوارع «بنونوته» وصراخه.
في سادسة الموازنات نجد القطّ البريطاني يحرص على الهويّة والانتماء و»الأصالة»، لذا لا ترى القط البريطانيّ إلا وهو حامل تاريخه واسمه وعنوانه على رقبته، الأمر الذي جعلها في مأمن من الضّياع، وفي سلامة من الصّراع، في حين أنّ القطّ العربي - رغم ولعه الشّديد بأمور الهويّة والانتماء - يبدو خالي الرّقبة، مجرّدًا من الانتماء، لا يظهر على رقبته إلا شيء من خدش حجر، وأثر من دهسة كفر، وما زالت الفئران العربيّة تريد التّآمر على القطط العربيّة، وتوصّلت الفئران إلى حلٍّ مفاده تعليق جرس ليكون بمثابة صفارة إنذار لهن من مغبة هجوم القطط المفاجئ، ولكن كان مصير الاقتراح الفشل إذ ما زالت الفئران تتساءل، والتّاريخ يسأل (من يعلّق الجرس)؟
وسابعة الموازنات أنّ القطّ العربي وشقيقه البريطاني يشتركان في امتلاك كلّ منهما لأسلحة البقاء الشّامل المتمثّل في «وجود سبعة أرواح عند القطّ العربي»، ووجود تسعة أرواح عند نظيره البريطاني، لذا يقولون في أمثالهم»a cat has nine lives» ، ولكنّ الفرق أنّ القطّ العربي يستنفد فرصه السّبع في الحياة، إذ هو يتعرّض كلّ يوم لمحاولة دهس، الأمر الذي يجعل (الحسابة بتحسب)، حتّى يصل إلى روحه السّابعة التي تحمله إلى الموت، في حين أنّ القطّ البريطاني قد يعيش كلّ عمره دون أن يتجاوز روحه الأولى، وأتحدّى من يشاهد في بريطانيا قطًّا أو حتّى قطّة قد ذهبت روحها نتيجة دهسة.
وثامنة هذه الموازنات أنّ القطّ البريطاني إذا اشتكى منه عضو تداعت له كلّ الأسرة التي يسكن معها، وحملوه إلى الطّبيب المختص، ووقفوا معه في مصابه الأليم، في حين أنّ القطّ العربي يولد ويموت دون أن يشعر أنّه ذاق طعم الرّعاية، أو أحسّ بمذاق الحنان، فهو يمرض ويموت , بل هو يريد أن يموت دون أن يعلم به أحد، ولو علم به هذا «الأحد» سيكون من الشّامتين أو المتفرّجين...
وتاسعة الموازنات تبدو في الأماكن المفضّلة لدى القطّ البريطاني، والتي تتنوّع ما بين النّافذة لمراقبة النّاس وإبداء الابتسامة لهم، أو صالة الطّعام لتناول ما لذّ وطاب، أو جالس على الرّصيف يراقب ويتأمّل، أو في غرفة التّلفزيون لمتابعة البرامج ذات الحسّ الفكاهي، في المقابل نرى أن الأماكن المفضّلة للقطّ العربي، هي الأماكن الآمنة، لذا تجده دائما فوق أسوار المنازل، أو على أعالي السّيارات، أو في حاويات القمامة، أو في الخرائب المهجورة ومن الغريب أنّ القطّ العربي يمتاز بأنّه يسير في الشّوارع، ولا يحبّ المشي على الرّصيف لأنّ ذلك من مظاهر الأدب والتربية، في حين أن قطع الشارع في كلّ وقت من مظاهر الرجولة والفوضى.
الموازنة العاشرة أنّ القط البريطاني لا يحب العبث اللّفظي، ولا يهتمّ بالشّكليات المتمثّلة في كثرة الألقاب والأسماء، فهو لا يملك إلا اسماً واحد هو «cat»، في المقابل يبدو القطّ العربي مغرمًا بالأسماء والألقاب، فهو “قط” و “سنور” و “بس” و “قطو” و “سعيدون” و “هرة”، وقد زعم أحد علماء اللّغة أنّ للقطّ أكثر من عشرين اسمًا. وتذكر كتب التّراث أنّ أحدهم صاد قطًّا وهو لا يعرفه، فلمّا دخل إحدى القرى ليبيعه قالوا له “إن هذا قط” ولما وصل إلى القرية الثانية قالوا له إنّه “سنور” ولما وصل الثّالثة أعطوه اسما ثالثاً ففرح هذا الأعرابي بما صاده معتبراً أنّه حيوان غالي الثّمن عطفاً على كثرة أسمائه، فلما حاول بيعه لم يساوِ ثمنه الطّعام الذي كان يطعمه إياه، أو لم يبلغ قيمة الجهد الذي بذله في صيده، فما كان منه إلا أن أفلت القط بعد أن أوجعه ضربا قائلا له (تباً لك ما أكثر أسماءك وما أقلّ ثمنك).
والموازنة الحادية عشرة تبدو متمثلة في أنّ القطط بشكل عام فطرت على النّوم الكثير والنّسيان الوفير، ومثل هذا ينطبق على القطّ البريطاني ودائمًا ما كنت أرى القطط التي بجوارنا مسترخية متهدّلة، كسولة، وعندما قال أهل بريطانيا “إن الهمّ قتل الهرة” “care killed the cat” ، فهم يقصدون أنّ الهمّ أثّر في ذلك الحيوان، الذي لا يتأثّر بشيء من جراء تبلّده، وغفلته عن النّاس، في المقابل نجد أنّ القطّ العربي مهموم مغموم طوال الوقت، بل ينطبق عليه المثل البريطاني القائل (الفضول قتل الهرة) “curiosity killed a cat”، والقطّ العربي يبدو فضوله خليطًا من البحث عن لقمة العيش إضافة إلى تدخّله فيما لا يعنيه.
وبعد.. هذه موازنات لمشاهد عابر ، وبالتّأكيد هناك الكثير في قضايا القطط الشّائكة، وممارساتها القوليّة والفعليّة، وهكذا تبدو القطط وسائر الحيوانات، وعلى هذا المفهوم يدور هذا القول وما سبقه من إشارات تفهم في سياقها فقط وليست هناك أية فرصة لإسقاطات أو نيّة لهمزات أو غمزات تجنح نحو التأويل والقراءة خارج ما هو مقصود به من ترصّد لسايكولوجية القطط فقط. وما تصرفات قططنا إلا ردّات فعل لطريقة تعاملنا معها، وصدق من قال: (إذا أردت أن تعرف وعي أيّ شعب، فانظر إلى حالة قططه)، ولا ينبئك عن تصرّفات النّاس مثل القطط.
منقول
المفضلات