[color="blue"]نفس تواقة[[/color]center][/center]

سنتحدث عن شخصين تقلبا بين جنبات النعيم .. رجل وزوجته عاشا في رغد ورخاء وثراء .. يجدان كل ما يطلبون .. وينالان كل ما يشتهون ..

أتتهم الدنيا ثم نحوها جانباً جاءهم النعيم مرغما فتركوه راضين

لنعد إلى الوراء نقلب صفحات التاريخ .. ونطوي عجلة الزمن ..
لنرجع إلى عام 99 للهجرة .. إلى دمشق نعيش في زمن الدولة الأموية ..حيث كان

الإنسان ينعم تحت ظل عدالة حكم الإسلام ..يأمن بين غصون أحكام شرع الله تعالى

في يوم الجمعة التاسع من صفر .. في ذلك اليوم كانت الأمة الإسلامية على موعد زاد من رفعتها رفعة .. و ارتفع مجدها مجدا .. و نما عزها عزة

كانت الأمة على موعد ازدياد ضياء عدالتها و اشتداد لمعان صلاحها ..

في ذلك اليوم توفي الخليفة سليمان بن عبد الملك .. لم يعلم بوفاته إلا وزيره ومستشاره الرجل الصالح رجاء بن حيوة

فأمر رجاء كعب بن حامد العبسي أن يجمع بني أمية في مسجد دابق ..

فجاءهم رجاء و قال لهم: بايعوا !!
قالوا : قد بايعنا مرة ونبايع أخرى ..
فقال : هذا أمر أمير المؤمنين بايعوا على ما أمر به .. ومن سُمي في هذا الكتاب المختوم ..

ولقد كانوا بايعوا من قبل لمن سماه سليمان خليفة من بعده في كتاب مختوم لم يعلموا ما فيه .

فبايعوا الثانية رجلاً رجلاً ..

رأى رجاء انه قد أحكم الأمر .. فقال : قوموا إلى صاحبكم فقد مات .. فاسترجعوا ..

منهم من هو حزين لفراق سليمان .. ومنهم من كان متطلعا للخلافة فرحا بذلك يمني نفسه بالجاه و السلطان و منهم من جمع بين هذا و هذا

والنفس هكذا تجمع النقائض ..
تجمع بين الضيق و الفرح ، بين الهم و التفاؤل و بين الخوف و الرجاء...
حزن على فقد سليمان و سرور بمنصب هو أعلى مناصب الدنيا آنذاك ..

هل من دولة في ذلك الوقت تنافس دولة المسلمين من أقصى المشرق من سمرقند
إلى أقصى المغرب العربي ..

ثم قرأ عليهم رجاء كتاب سليمان .. وإذا بالمفاجأة الكبرى خاصة لإخوان سليمان .. فالخلافة ليست فيهم وإنما لعمر بن عبد العزيز ..

الخليفة الزاهد .. الخليفة الراشد الخامس ..

استلم عمر بن عبد العزيز إمارة المسلمين ..
فعاش المسلمون عصراً من أعدل عصورهم .. ومن أشدها أمناً .. وأكثرها رخاء ..

عمر بن عبد العزيز فتى بني أمية ..

ثيابه تتجاوز قيمتها خمسة آلاف درهم ..

عمر .. وما أدراك ما عمر ..
عمر .. يُسير له الطيب من الهند خصيصاً له ..
عمر .. الشاب المرفه ..ذو الغنى ..صاحب الجاه و السلطان

ماذا ينتظر الناس من تلك الشخصية ؟!

سيزداد جاه إلى جاه .. وستزدحم عليه النعم تلو النعم ..

و لكن ....كل هذا لم يكن !....

يحدث عبد العزيز بن عمر بم عبد العزيز .. فيقول

لما دَفَن عمر سليمان بن عبد الملك وخرج من قبره سمع للأرض هدة أو رجة . فقال : ما هذه؟!

قيل : هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قربت إليك لتركبها ..
( فإذا الخيول والبراذين و البغال و الحرس يملؤون المكان )

فقال : ما لي و لها ؟! نحوها عني .. قربوا إلي بغلتي فركبها ..

فجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة. قال : تنح عني مالي ولك .. إنما أنا رجل من المسلمين ..

فسار وسار معه الناس ..

لم يكن يعرف شخصية عمر إلا المقربين منه .. كأمثال سليمان ورجاء ..

كانت شخصية عمر نفس عظيمة غطاها ران الدنيا وغطاء العجب ..
كانت نفس تحتاج إلى استشعار عظيم بالمسئولية لكي يزيل هذا الران ..

وهذا ما حدث لعمر ..

رفض موكب الخلافة .. بل نحى عنه صاحب الشرطة .. وسار كرجل من المسلمين ..

تذكر أخي القارئ .. كم مساحة الأرض التي تدين لعمر ؟!

عمر الذي كان لا يعيش إلا في القصور ..
ويعرف الناس المكان الذي حل فيه من عبق عطره ..

جمع الناس بعد ذلك في المسجد .. وخلع عنهم بيعته وتركهم يختارون لأنفسهم الخليفة..

فبايعوه أميراً للمؤمنين ..

وليسمع هذا الذين يترامون على المناصب ويبيعون الغالي والنفيس طمعاً في جاه ولرئاسة زائلة وما علموا تبعاتها ..

ذكرت لكم في بداية حديثي .. إن كلامي عن شخصين ..
فهذا الشخص الأول وما زالت لنا معه وقفات مع الشخص الثاني وهو بل هي زوجته فاطمة بنت عبد الملك ..

تلك الزوجة التي كانت تنتظر زيادة في الرفاهية .. ونماء في السلطان بعد أن أصبح زوجها بين عشية وضحاها خليفة المسلمين ..

فاطمة... كانت بارعة الجمال .. كاملة الخلق كما وصفوها .. عاشت في دلال أبيها ثم في دلال زوجها ..

دخل عليها عمر بعد أن تولى الخلافة فقال لها :
( يا فاطمة قد نزل بي هذا الأمر وحملت أثقل حمل وسأسأل عن القاصي والداني من أمة محمد .. ولن تدع هذه المهمة فضلة من نفسي ولا من وقتي أقوم بها بحقك علي .. ولم تبق لي إربا في النساء ..
وأنا لا أريد فراقك ..
ولا أؤثر في الدنيا أحداً عليك .. لكني لا أريد ظلمك ..
وأخشى أن لا تصبري على ما اخترته لنفسي من ألوان العيش .. فان شئت سيرتك إلى دار أبيك ..

سيطرت على فاطمة الدهشة والاستغراب وسمعت مالم تتوقعه أبداً ..
كله يهون إلا أن تتركه إلى بيت أبيها ..

يا أحبة .. علاقة عمر بزوجته كانت على أحسن ما تكون العلاقة بين رجل وامرأته ..

كانت رغباته عندها أوامر .. وطلباتها عنده مجابة ..

فما الذي حدث .. وسألته :ماذا سيصنع ؟!

فقال : إن هذه الأموال التي تحت أيدينا وتحت أيدي إخوتك وأقربائك قد أخذت كلها من أموال المسلمين .. وقد عزمت على نزعها منهم وردها إلى المسلمين .. وأنا بادئ بنفسي ..

ولن استبقي إلا قطعة ارض لي اشتريتها من كسبي .. وسأعيش منها وحدها .. فان كنت لا تصبرين على الضيق بعد السعة فالحقي بدار أبيك ..

لنعش معاً موقف فاطمة .. لنعش أثر تلك الصاعقة عليها .. ما الذي غيرك يا عمر ؟!

هي تعرف زوجها تمام المعرفة .. تعرف رفاهيته .. تعرف عزته بنفسه ..

عمر كان يسقط رداءه على الأرض فيتركه ولا يحمله .. و ثمنه ما يقارب ألف درهم
يلبس من الثياب ما ثمنه يزيد على خمسة آلاف درهم ..
كانت تعرف كل ذلك عن عمر .. فماذا تغير فيك يا عمر ؟! أو ما الذي غيرك؟!

فسألته : ما الذي حملك على هذا ؟!

قال : ... واستمع أخي الكريم إلى مقالته .. استمع بقلبك لتعرف ما الذي غير عمر ..!!

قال : يا فاطمة إن لي نفساً تواقة .. ما نالت شيئاً إلا اشتهت ما هو خير منه ..
اشتهيت الإمارة.. فلما نلتها اشتهيت الخلافة .. فلما نلتها اشتهيت ما هو خير منها . .. وهو الجنة ..

هل تشتهي الجنة كما اشتهاها عمر ؟!!

شهوة الجنة تدفع إلى العمل .. تدفع إلى ترك المحظور وإلى فعل المأمور .. تدفع إلى الاجتهاد في طاعة الله

ما الذي حملك على هذا يا عمر ؟!

نفس تاقت واشتهت الجنة..

أخي الكريم .. لنفكر بالجنة كثيراً ولنستشعر نعيمها لكي تشتهيها ..

الناس ماذا يشتهون ؟!
الطعام .. المنزل الفاخر .. النساء .. الجاه .. المنصب ..

كل شهوة دون الجنة زائلة ..

بماذا ترد فاطمة ؟! ماذا تفعل ؟!

هل تعلم من هي فاطمة بنت عبد الملك ؟!
ربيبة القصور ....
فتاة جميلة .. أميرة ..كانت على خلق و أدب..
ابنة خليفة .. وزوجة خليفة .. وأخت أربعة خلفاء ..

أي جاه هذا ..!! وأي مكانه ..!!

فاطمة .. ما خطر على بالها أمر أرادته .. إلا أتاها... هي الآمرة الناهية ..
انتقلت من عطف أبيها إلى حب و اهتمام زوجها ..

تزدحم عليها النعم ازدحاماً .. وتتدفق عليها تدفقاً ..

ماذا قالت فاطمة !!
(( اصنع ما تراه فأنا معك وما كنت لأصاحبك في النعيم وأدعك في الضيق وأنا راضية بما ترضى به ))..

ماذا فعلت فاطمة !!
(( تركت الحياة الرغيدة .. حياة الترف والرفاهية .. تركت الخدم والعبيد )) ..
(( تركت الغنى والمال .. إلى حياة الفقر بل و أي فقر فقر مدعق )) ..

هل نعني معنى هذا ..

أن تعيش فاطمة في بيت صغير .. تطبخ وتغسل وتكنس وتربي أبناءها .. بعد أن كان تحتها الخدم والحشم والعبيد يفعلون كل ما تطلب ..

وفي هذا درس بل دروس لنساء المسلمين وأخص زوجات الدعاة بأن يقفوا دائماً مع أزواجهم في اليسر وفي العسر .. في المنشط وفي المكره ..

درس لنساء المسلمين في طاعة أزواجهم في غير معصية الله ..

درس لنساء المسلمين في تعاملهم مع أزواجهم ..

ولنعلم كيف عاش عمر وزوجته بعد ذلك أذكر هذين الموقفين :

# أتت امرأة إلى بيت الخليفة تريده .. فوجدت فاطمة جالسة على بساط مرقع ترتدي ثياب عتيقة ..
وكان عمر يداه ملطخه في الطين يصلح جداراً في البيت..

هذا ما اختاراه بأنفسهما رغبة في الجنة ..

# اشتهى الخليفة عمر ذات مرة عنباً .. فقال : (( يا فاطمة أعندك درهم نشتري به عنباً )) قالت : (( أنت أمير المؤمنين ولا تقدر على درهم نشتري به عنباً ))..

فهل اشتهيت مرة عنباً ولم تستطع شراءه ..

صبرت فاطمة على هذا كله طاعة لزوجها ورغبة بما عند الله ..

وهل وقف الأمر عند هذا الحد ؟!
لم يبق عند فاطمة إلا جواهر كانت هدية من أبيها فأتاها عمر يوماً وقال لها :
(( يا فاطمة لقد علمت أن هذه الجواهر قد أخذها أبوك من أموال المسلمين وأهداها إليك .. واني أكره أن تكون معي في بيتي فاختاري: إما أن ترديها إلى بيت المال أو تأذني لي في فراقك ..!!

قالت :
(( بل أختارك والله عليها وعلى أضعافها لو كانت لي )) .. وردتها إلى بيت المال ..

ونعلم ماذا تعني حلي المرأة بالنسبة لها !!


وبعد وفاة عمر ..ولي أخوها يزيد الخلافة رد عليها حليها فقالت :

لا و الله أبدا ما كنت لأطيعه حيا و أعصيه ميتا . لا حاجة لي بهـا فقسمها على أهله و هي تنظر ...

إن تحسرت على شيء فاتك من الدنيا فتذكر عمر و زوجته .. إن ألهتك زخارف الدنيا فتذكر عمر و زوجته ... ......

أقف هنا لأتركك أخي القارئ لتسبح بفكرك في نهر الفوائد و تغوص في بحر العبر و العظات لتستخرج اللآلئ و الكنوز من تلك المواقف الخالدة لعمر و زوجته ...

منير أحـمـد الخـالدي