نحنُ نعيش في عالم تتسارَعُ فيه الأحداثُ، وتُطْوَى فيه صفحاتُ الزمن، بل نكادُ لا نشعرُ بوقْتِنا كيف يمرُّ وفيما نقضيه، كُلُّنا في أمَسِّ الحاجة إلى أن ننظمَ أوقاتنا، ونحاول الاستفادة من كلِّ دقيقة في حياتنا، إذا كُنَّا نسعى إلى حياةٍ أفضل وعملٍ مميزٍ يقود إلى نجاح مؤكَّدٍ، أردتُ في هذه الكلمات أن أنقلَ إليك صورًا وحوافزَ؛ لكي تساعدَنا في اغْتنام أوقاتنا، ولتكونَ لنا معينًا في اغْتنام واستغلال أوقاتنا استغلالاً جيدًا.

ولا يخفَى على أحدٍ من المسلمين أنَّ الوقْتَ هو عمر الحياة، وهو مَيْدان أعمالِه النافعة، لهذا كانَ استغلالُه من أهمِّ الأولويَّات، واغْتنامه علامة على النجاح والإبْداع.

لهذا كانَ السلفُ الصالح - رضوان الله عليهم أجمعين - أحرصَ الناس على كسْب الوقت، ومَلْئِه بالخيْر والأعمال النافعة؛ فقد كانوا يسابقون الساعات واللحظات؛ حِرْصًا منهم على ألا تذهبَ منهم هَدرًا.

نُقِلَ عن عامر بن عبدقيس - أحدِ التابعين - أنَّ رجلاً قال له: كلِّمْنِي، فقال له عامر بن عبدقيس: أمْسِكِ الشمس!

وكأنَّ لسانَ حالِه يقول: أمْسِك الوقتَ؛ حتى أكلمَك، فما مَضَى لا يعود بعد مرورِه، والوقت خسارته خسارة لا يُمْكن تعويضُها واستدراكُها.

أخي الكريم:

هناك أمورٌ كثيرة ترفعُ هِمَمَنا لاستغلال أوقاتنا واغْتنامِها، وقد يحدثُ للمسلم حدثٌ في حياته اليوميَّة، فيكون سببًا وهِمَّة في اغْتنام وقْتِه، وأسوقُ إليك بعضًا من هذه المحفِّزات:
قال ابن الجوزي في "التبْصِرة": كان توبة بن الصمَّة ببلدة الرِّقَّة، وكان محاسبًا لنفسِه، فحسب يومًا عُمرَه، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيَّامَها فإذا هي إحدى وعشرون ألف يومٍ وخمسمائة يوم، فصَرَخَ وقال: يا ويلتى، ألْقَى المليكَ بواحدٍ وعشرين ألف ذنبٍ وخمسمائة ذنب؟! كيف؟ وفي كلِّ يوم عشرة آلاف ذنب؟ ثم خرَّ مَغْشيًّا عليه، فإذا هو مَيِّتٌ، فسمعوا قائلاً يقول: يا لكِ ركضة إلى الفردوس الأعْلى!

هذا حالُ السلف الصالح - رضوان الله عليهم - في حساب أوقاتِهم وأعمارِهم، فلو سأَلْنا اليومَ أصحابَ الستين: كيف يقضون أوقاتهم؟! لسمعت العجبَ العُجاب!

يجيبُنا ابنُ الجوزي في كلام يُكتب بمِداد الذهب يقول: رأيتُ عمومَ الخلائق يدفعون الزمان دَفْعًا عجيبًا، إنْ طالَ الليلُ فبحديثٍ لا ينقطع، وإنْ طالَ النهارُ فبالنوم، وهم في أطرافِ النهار في الأسواق؛ بتصرُّف.

ومِن حوافز اغْتنام الأوقات ما ذَكرَه الإمامُ الموفَّق ابنُ قُدامة في وصِيَّته، قال: اغْتنمْ - رحمك الله - حياتَك النفيسة، واحتفظْ بأوقاتك العزيزة، واعْلمْ أنَّ مُدَّة حياتِك محدودة، وأنفاسَك معدودة، فكلُّ نَفَسٍ ينقصُ به جزءٌ منك، والعمر كلُّه قصير، والباقي منه هو اليسير، وكلٌّ منه جوهرة نفيسة لا عَدْلَ لها، ولا خلف منها، فإنَّ بهذه الحياة اليسيرة خلودُ الأبدِ في النعيم أو العذاب المُقيم، وإذا عادلتْ هذه الحياة بخلود الأبد، علمتَ أنَّ كلَّ نَفَسٍ يعدلُ أكثرَ من ألف ألف ألف عام في نعيمٍ لا حظرَ له، وما كان هكذا فلا قِيمة له، فلا تضيِّعْ جواهرَ عُمرِك النفيسة بغير عملٍ، ولا تذهبها بغير عوضٍ، واجتهدْ ألا يخلوَ نَفَسٌ من أنفاسك إلا في عمل طاعة، أو قُربة تتقرَّب بها، فإنها لو كانتْ معك جوهرةٌ من جواهر الدنيا، لساءك ذهابُها، فكيف تفرِّطُ في ساعاتك وأوقاتك؟ وكيف لا تحزن على عُمرك الذاهب بغير عوضٍ؟!

فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ منَ الناس؛ الصِّحة والفراغ))؛ رواه البخاري.

ومن الحوافز أيضًا ما ذَكرَه الإمامُ ابنُ المبارَك - عليه رحمة الله - قال: إنَّ الصالحين كانتْ تُوَاتيهم أنفسُهم على الخيْر عفوًا، ولا تكاد تُوَاتِينا إلا على كرهٍ، فينبغي لنا أن نكرهَها اغْتنامًا للعُمر.
الدَّهْرُ سَاوَمَنِي عُمْرِي فَقُلْتُ لَهُ
لاَ بِعْتُ عُمْرِيَ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا

ثُمَّ اشْتَرَاهُ تَفَارِيقًا بِلاَ ثَمَنٍ
تَبَّتْ يَدَا صَفْقَةٍ قَدْ خَابَ شَارِيهَا




أخي في الله:

إنَّ الوقتَ في حياة المسلم مكسبٌ كبيرٌ، فيه تُنْجَزُ الأعمال النافعة، وفيه يُتَقَرَّب إلى الله - سبحانه وتعالى - فانظرْ إلى الأعمال، كم من الأعمال الصالحة التي يمكنُك إنجازُها في الدقيقة الواحدة! إن في الدقيقة الواحدة تستطيعُ صلاة ركعتين خفيفتين، إن في الدقيقة الواحدة تستطيعُ أن تقولَ: لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير عشرين مرة، وأجْرُها كعتقِ ثماني رقاب في سبيل الله من وَلَدِ إسماعيل؛ كما في الحديث الذي أخرجه مسلم برقْم (2693).

هذه بعض النماذج في استغلال الوقت، والحثِّ على التمسُّك به، والاستفادة المثْلَى منه، وأُوصِي نفسي أولاً بهذه الكلمات، فما أعلمُ أحدًا مُقَصِّرًا في وقته مِثْلي، وأوصيكم ثانيًا، ولنطَّلِع على سِيَر علمائنا سلفنا الصالح؛ لنرى أروعَ النماذج في استغلال الأوقات وعُلوِّ الهِمَم، فلله دَرُّهم.

موقع الألوكة