الشيخ محمد أحمد الراشد
مقدمة طريق الدعوة ، وأول خطوة فيه : أن يؤسس الدعاة لأنفسهم همة عالية. وإنها وصية أبي القاسم الجنيد رحمه الله إذ يقول : (عليكم بحفظ الهمة ، فإن حفظ الهمة مقدمة الأشياء . ) ( 1 )
همة تخرجهم من الفتور و اللامبالاة إلى انشغال تام بالتبشير إلى الدعوة ، والتفكير بمصالحها .وهمة تبعدهم عن تتبع الرخص والأعذار ، وتحملهم على الإقلال من التمنيات ، وتعليق القلب بمستقبل الدعوة، وتحريك العزيمة وإثارتها للوصول إلى الهدف . وهي الهمة التي تجعل هدف صاحبها يستهين كل صعب ، ويعاف كل دعة، وتقر عينه بالتضحية ، ويطرح كل جاهلية من قلبه دفعة واحدة بلا انتظار، ولا توان ، ولا تردد، ولا تعليق على شرط ، ويعود يحزن من إذا استوى يوماه . وهذه هي تجاربنا تنطق : أن من بدا الدعاة بحزم وعزم ضمن له الاستمرار . ومن بدأ بلين وتراخ لزمه هذا اللين ، وظل حرجا متأرجحا ، وربما لم ينفعه الاستدراك إذا أراد مهما حاول . وإذن ، فإنها الأيام الأولى تحدد السمت ليس غير .
الرسـول المشمر " صلى الله عليه وسلم "
وللداعية في كل ذلك إقتداء حسن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه ـ كما تقول عائشة رضي الله عنها ـ من كان يراه : يراه (غاديا رائحا ، لم يضع لبنة على لبنة، ولكن رفع له علم فشمر إليه. ) .
فلم يكن نبي الله صلى الله عليه وسلم ليفتر أو يعقد، بل هو حركة دائبة يريد أن ينتسب إلى طريقته .خطة يومية عنوانها: الحركة الدائبة والغدو والرواح للاتصال بالناس وتبشرهم بمعاني الإسلام، وتأديب وتربية من يستجيب منهم، وعائشة رضي الله عنها إنما عددت عزوف قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم عن كل المطامع الدنيوية، واستغراق عمله الديني والتربوي لكل أوقاته .ما بنى دار من لبن، ولا تعلق قلبه بمال، ولا أبقاه في يده أن حصل عليه، ولا شغف قلبه حب حسناء. وبذلك فت طريقا يعرفها الموفقون لها، ويعيش بلذة السير فيها من يرى قلق وأسى واضطراب من هرب من الدعاة إلى الإسلام حرصا على دنيا زائلة .
لا تلفت إلى الوراء
فطريقك واضح أيها الداعية ، ووجهك مرفوع لعلم قد لك ، فشمر إليه، ولا تلتفت للوراء . سير الداعية بلا التفات ، كما رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يوم خيبر لما أعطاه الراية . قال له : ( أمش ولا تلتفت ، حتى يفتح الله عليك ). ( 2 ).
فسير الداعية إلى الأمام أبدا حتى فتح الله له ، ومتى التفت فلت أمره، وفت في عضده ، وربما تلف. وما تأخر من تأخر إلا لهذا الالتفات .
أو كما قال ابن القيم رحمه الله ( لا وقوف في السير، بل إما تقدم أو تأخر، كما قال تعالى :"لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر".فلا وقوف في الطريق، إنما هو ذهاب وتقدم ، أو رجوع وتأخر.) ( 3 ).
وإنما المؤمن هارب من الشيطان إضافة إلى تقدمه، وهو في هربه كالظبي في هربه من الذئب أو الأسد ، فإذا التفت التفاتة بسيطة إلى الخلف رأى المنظر المفزع، فتزيد رهبته ، ويعكف عن مواصلة سرعته، ويدركه الطالب كما هو مشهور من أمره عند الصادين . لذلك فان سيد قطب رحمه الله ظل ينادي من وراء قضبان السجون في قصيدته الرائعة كل داعية:
أخي فامض لا تلفت للوراء *** طريقك قد خضبته الدماء
ولا تلفت ها هنا أو هناك *** ولا تتطلع لغير السـماء
وهذا تاريخ الإسلام يرينا دوما أن القانع قابع ، والتواق سباق . لذلك يريد السبق ، ودخول الجنة في الزمر الأولى ،فانه يأبى المنزل ،ويأبى القناعة بالدرجة التي وصل إليها من الخير، ويكون ديدنه أن يتابع السير، ويرتقي مدارج الفضل وينتسب إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين رفض القناعة فقال:" أن لي نفس تواقة، لم تتق إلى منزلة فنالتها إلا تاقت إلى ما هي ارفع منها ، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة ، وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة " ( 3 ) فكن متحركا إلى الأمام أيها الداعية ، و إلا هو الموت أو شبهه ، كما جرب إقبال قبلك فنادى ( وجودي السير، والعدم السكون ) ( 4 ).
والداعية لا يهدأ إذا أبصر فعلا الغاية الجميلة الرائعة ، وهو النابض الذي لا يسكن ابدأ ، وهو الذي يسير في الطريق ابدأ ،لا يتخذ الجزء منه مرحلة وغاية ، بل يمشي وينشد :
ماذا أقول وفطرتي *** لا ترتضي دعة المنازل
قلبي على قلق كما *** تهفو الصبا حول الخمائل
فإذا نظرت إلى جميل *** رائع حلو الشمائل
خفق الفؤاد إلى الذي *** يعلوه حسـنا في المحافل
إني ليهلكني القرار فما *** اعوج على المراحل ( 5 )
في جنة عالية قد رفعت لك أيها الداعية والله بر رحيم ، ودود غفور ، فشمر للوصول إليه والى جنته ، واجمع قلبك وباطنك على التحديق إليها ، واركب مركب التبشير والتبليغ ودعوة الناس وتأديبهم للوصول إلى ربوعها.
لابد من بينونة كبرى !!
ولابد للداعية من أن يصير عن هؤلاء الناس ، كما يقول ابن القيم ( 6 ). فهو كائن مع الناس ، يعيش بينهم لينتقي ويربي ، بائن عنهم بقلبه ، مزايل لما هم فيه من عرض الدنيا .ولقد وصل بعض أئمة الإسلام الذروة في هذه البينونة الكبرى حتى وصف الإمام الفقيه الكبير المحدث محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح المشهور بأنه كان: " لا يدخر شيئا جهده ، بل ينفقه على أهل العلم ، ولا يعرف صنجه الوزن، ولا يميز بين العشرة والعشرين( 7 ) . ولا يعرف كم الكيلو والغرام!! تراه عن قله ذكاء وهو العالم الفقيه الإمام ؟ ولكنه وهب جميع فكره للإسلام. وكذلك كان أمر الإمام المحدث إسحاق ابن رهويه الحنظلي، إمام خراسان كلها وشيخ البخاري ومسلم ، فقد وصفه تلميذه أبو يحيى الشعراني فقال:" كنت إذا ذاكرت إسحاق في العلم وجدته فردا، فإذا جئت إلى أمر الدنيا وجدته لا رأي له( 8 ).
لا ينظرون إلى الدنيا على أنها حرام، فتحريمها بدعة ، ولكن لأنهم يرونها أنها تشغل عن السير إلى الله، ولأنهم انغسموا في العلم والعمل ، فنسوها ، وسلموا كلهم لله فما عادوا يذكرونها ، كما سلم فروة بن عمرو الجذامي رضي الله عنه نفسه، وكان ملكا على العرب الذين في مدينة معان وما حولها من أسفل الشام فلما اسلم وأرسل رسولا منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه بإسلامه أخذه الروم فحبسوه ، واجتمعوا لصلبه في فلسطين فلما قدموه ليقتلوه قال :
بلغ من سـراة المسلمين بأنني *** سلم لربي أعظمى مقامي
ثم ضربوا عنقه ( 9 ). فتسليم الكل حد حده فروة ، ومنع به أن يقتصر من بعده على دون هذا الحد . ولا يكون داعية اليوم من لم يسلم كله لله . وأما انه داخل خارج ، فهو أنه داخل في مجتمع هؤلاء الناس ، يعيش بينهم، وينتسب إلى قبائلهم وعوائلهم و لكنه خارج على قوانينهم المخالفة للشريعة ، لا يطبقها ، ولا تغره. أنه الخارج على القانون حقا . لكنه الداخل للقلوب حقا. يدخله بالدعوة والنطق بالحق ، وبانتسابه إلى حزب الإمام الغزالي إذ يقول : ( ما كنت أجوز في ديني أن أقف عن الدعوة ومنفعة الطالبين بالحق ، وقد حق علي أن أبوح بالحق ، وانطق به وأدعو إليه ) ( 10 ). فلا ينزوي.
ليس منا من ثوى في صومعة *** يحبس الأفكار والفكر معا
ضاق نفسا عن مجال وسعا *** فثوى في ضيقع قد خنعا
ليس شيئا أن ترى معتزلا *** عابدا ، تخشى البرايا ، وحلا
إنما العابد من خاض الحياة *** موضحا فيه سبيلا للنجاة( 11 )
والناس قد أضلتهم الأحزاب ، وامتصت أخلاقهم وعقائدهم المبادرات الجماعية للمراهقين والعملاء ، فكيف يقعد المسلم؟ المسلم لا يقعد ، لكن كأن من شرطه أن تستفزه بلاغة الدعاة حين يقولون :
إيه دعاة الحق أنتم معقد إلا *** مل المضيء ، فبالظلام أطيحوا
ضل القطع وزمجرت ذؤبانه *** تغدو على أشلائه وتروح
إني أعيذ بهاءكم أن ينزوي *** في ركن بيت ، والجواد جموح
قودوا الجموع إلى السماء وخلفوا *** من شاء تعلوه الزمان سفوح
المجد مجدكم فعار أن يرى *** يعدو إليه مغامر طموح( 12 )
فعار أن يسبق الدعاة مغامر ، ومراهق ، وطموح إلى لمصالح شخصية ، ومنفذ لخطط ماسونية .
أما الانفصال عن الناس في وقت الاتصال فهو الانفصال مرتبة الهمة ، فالمنتسبون إلى الإسلام لا هون، والداعية ذو قلب مهموم بمصالح المسلمين. ومن حوله يجمع الدينار والدرهم ، وهو يدخر الحسنات عند الله. وغيره (يتوكل في حصول مال أو زوجة أو رياسة ، وهو قد استجمع ( التوكل في نصرة دين الله وعلاء كلمته ، وإظهار سنة رسوله، وجهاد أعدائه .) كما يقول ابن القيم ( 13 ). والله سبحانه وتعالى يفصل الدعاة عما الناس فيه .( إذا صلح القلب لله عز وجل لا يدعه مع الخلق والأسباب ، لا يدعه مع البيع والشراء ، والأخذ والعطاء بالأسباب. يميزه ويخلصه.) ( 14 ) إنما يبقى جسمه فقط مع البيع والشراء ، أو راء منضدة مكتبه الوظيفي، أو أمام كشف رصيده في البنوك ، أما قلبه فهناك .. ( إن هذه الدعوة لا يصلح إلا من حاطها من كل جوانبها. ووهب لها ما تكلفه إياه نفسه وماله ووقته وصحته . " قل إن كان آباءكم وأبناءكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ". فهي دعوة لا تقبل الشركة ، إذ أن طبيعتها الوحدة ، فمن استعد لذلك فقد عاش بها وعاشت به ، ومن ضعف عن هذا العبء وفسيحرم ثواب المجاهدين، ويكون مع المخلفين، ويعقد مع القاعدين ، ويستبدل الله لدعوته به قوما آخرين " أذله على المؤمنين وأعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيـل الله ، ولا يخافون لومه لائم ، ذلك الفضل من الله يؤيته من يشاء"( 15 ).
أو كما وصف الجنيد رحمه الله هؤلاء الذين انفصلوا عن الناس ، فقال ( إن لله عبادا صحبوا الدنيا بأبدانهم ، وفارقوها بعقود إيمانهم اشرف بهم علم اليقين على ما هم عليه صائرون، وفيه مقيمون وعليه راجعون… فأنظرهم… ترى أروحا تتردد في أجساد قد أذبلتها الخشية ، وذللتها الخدمة، وتسربلها الحياء … واسكنها الوقار ، وانطقها الحذار … شغلها بالله متصل، وعن غيره منفصل. ( 16 ) .؟
إن قول ابن القيم ذلك ، وهذه الأقوال والسير التي شرحته ، تبين اصل جانب المفاصلة الشعورية ، ومفاصلة الشعورية، ومفاصلة الفرد الداعية السلوكية ، مما ذكره سيد قطب من المفاصلة الحركية.
الإتباع جماع الخير
وجماع كل الخير : الإتباع والقيام بحقيقة التوحيد . إتباع النبي صلى الله عليه وسلم وتقليده والسير في طريقه. فبهمة الإتباع : شابه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو راع قليل الشأن في العرف الجاهلي، أرفع العباد وأعلاهم وأشرفهم منزلة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال حذيفة رضي الله عنه : ( إن أشبه الناس دلا وسمتا وهديا برسول الله صلى الله عليه وسلم لابن أم عبد، من يخرج، بيته إلى أن يرجع إليه( 17 ) .) وبهمة الإتباع غير الله لجليس المتبعين الذاكرين لله، الذي جالسهم لحاجه معهم، كما ورد في الحديث الصحيح فيقول الملائكة ممن أحصوهم : ( فيهم فلان ، إنما جاء لحاجة. ) جاء لحاجة ،يريد مالا أو يتقضي ديونا. فيقول تعالى : ( هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم ) . ( 18 )
فانظر أيها الداعية هو الله البر الرحيم الذي يغفر في الآخرة لجليس الذاكرين ، أليس هو الكفيل بهداية هذا الجليس وجعله ينطق معهم في الحياة الدنيا ؟ والله سبحانه يحشر معهم هذا الجليس في الجنة في الآخرة ، أليس هو الله القادر على أن يدخله جنة تجمعهم في الدنيا ؟
بلى أنه القادر ..
وأذن …أن أمر الدعوة والتبشير أيسر مما يظن. جالس الناس فقط واذكر الله بينهم، واذكر دينه وأمره ونهيه وقرآنه ، يكونوا جلساء ذاكرين وإن لم يرغبوا ، ويدخلهم الله صفك فيهتدوا .
لا تحتاج إلا أن تخرج من القوقعة وتتحرك .لا يراد منك إلا أن تجهر بذكر الله في مجالس الناس يأتونك أفواجا ، ويدخلون معك ، غير ملتفتين إلى وراء ، وبخطوة جازمة ليس معها رجعة ، ولا استئناف ، ولا انثناء .
المفضلات