الفلسفة باعتبارها سلطة مضادة



العرب أونلاين- جيلالي نجاري: تعدُّ الفلسفةُ ممارسة عقلانية تطرحُ التساؤلات المنطقية حول الـ "كيف" والـ"لماذا" المتعلقة بكافة الأشياء. إنها شكٌّ منهجيٌ و تفكيرُ خصب. وهي كذلك فن تأمل العالم بانتقاد ذات العالم وطريقة تفكيرنا في آن معا.

إنها بحق أفضل سلطة مضادة للفكر الأحادي. بل وأفضل "تربية لوسائل الإعلام". و تهدف الفلسفة إلى توحيد كافة المعارف من خلال مناشدة القوى العليا للعقل البشري، من حيث أنها تشهد الخصب الشعري للذكاء. وإذا كانت الفلسفة لا تقوى الاستغناء عن الذكاء، فإن الذكاء بوسعه أن يستغني بسهولة عن الفلسفة! .

إن لفظة " Philosophos" اليونانية تعني الشخص المحبَّ و الساعي للحصول على الحكمة والمعرفة. وهذا البحث أو السعي وراء المعرفة هو بحدّ ذاته إقرار بالجهل! . فعلى الرغم من المسائل المعقدة التي يتناولها الفلاسفة إلا أنهم في واقع الأمر يتحلون بتواضع كبير، لأن هدفهم الأساس هو طرح الأسئلة لمناوشة الحقيقة وليس إقرار "الحقائق" والرد على الأسئلة التي نوجهها لهم.

لذلك يكون الشخص الذي يدّعي بأنه فيلسوف ويظهر الغطرسة دجالا حقيقيا و سفسطائيا – أو واحدا من هؤلاء "المثقفين" الذين تستهلكم بلاتوهات التلفزيون بنهم كبير!
والفلسفة هي قبل كل شيء متعة البحث عن المعنى بمساءلة الأسئلة، فهي شجاعةُ إحراج الحقيقة بالمحاورة.

إنها التسامي والتعالي بغية التمكن من نظرة أوسع وأكثر تعقيدا عن العالم باتخاذ الأدوات المعرفية سلاحا للتفكير وللدخول في عالم الحقيقة والخروج من عالم الضباب. هدف الفلسفة هو خلخلة المسلمات وجعل الآخر فيلسوفا.

لقد استطاع الفيلسوف الليتوني الأصل إيسايه برلين في مقابلة أجراها سنة 1990 تقديم تعريف رائع حينما صرّح: "إذا تمّ تدريس الفلسفة بصورة جيدة، فإن أحد أهم آثارها سيكون قدرة كشف الحجج الواهية والأكاذيب والألفاظ الضبابية والابتزاز وكافة الألاعيب والمظاهر الزائفة المبثوثة في الخطابة السياسية. بها "الفلسفة" نستطيع بشكل واسع شحذ القدرة النقدية ".

في الاستخدام السيء للفلسفة: سيكون القرن الواحد و العشرين هذا عصر التلاعبات العنيفة بالمعنى وأول ما يستهدف فيه الكلمات!

نظريا، يُفترض في الفلسفة مهاجمتها المبدئي لكل الغيتوهات العقلية. إلا أننا تطبيقيا نحصرها - في بعض الأحيان - في الحذلقات العقيمة وفي توفير الطوب والاسمنت لسدّ الثغرات لتأمين كافة الأمور. فمن دور النفق المؤدي للخلاص تحوّلت إلى سياج وبرج مراقبة. ومن ديناميت مفجِّر استحالت إلى رئيس ورشة.

لم تعد تقول: "اخرجوا من الكهف! " بل: "ابقوا بداخله! ". هذا في حال إن رطنت بشيء ما للناس!. لقد أصبحت تفتقر للحركة والعواطف وللانفتاح والامتزاج. أضحت تفتقر للخيمياء وللوعود التي لا تنضب. أضحت تثبّتُ الهويات بدلا من جعلها مواد مؤقتة. لم تعد تضايق عصرها ولم تعد تبتكر شعبها.

أفكارها لم تعد لها قابلية العبور. لم تعد تقتحم لا سطوا و لا انتهاكا. تحولت إلى القيام بدور التقييس والتقنين. سيكون القرن الواحد والعشرين هذا عصر التلاعبات العنيفة بالمعنى. وأول ما يستهدف فيه الكلمات لأنها هي الوحيدة التي تمكننا من تأويل الصور التي أضحت تغزو الكون الذي نعيش فيه.

فمن أقصى خصوصيات حياتنا الشخصية إلى مصير العالم، لا شيء يمكنه الإفلات من الاتجار الرهيب بالكلمات.
تعرف الحياة واللغة والأفكار تحولات جذرية مستمرة. فتجارب ومخاوف مرحلة ما تتمظهر في العبارات الوليدة بينما يُتَخَلى عن المفردات التي يصعب عليها عكس رهانات الحاضر و استبدالها بأخرى أكثر صعقا.

ومهما يكن، فإننا حين نضطر إلى اختيار كلماتنا بصعوبة فإن ذلك يعني عسر الاختيار بحرية. لا يكتفي المجتمع الاستهلاكي بتكثيف معظم الرغبات والأذواق في جميع مناحي الحياة وإنما يجعلنا متعصبين أيضا. إنه يجعلنا – بالأحرى – قابلين للتعصب. وهكذا يترك الباب مفتوحا على مصراعيه للديماغوجيين ولرجال الإشهار الذين يعرفون كيف يؤثرون فينا. "التفكير يعني التأني والتأني يعني الضجر والضجر يعني الموت. إذن، التفكير هو الموت"!!!. لقد سمعنا مؤخرا وزيرة الاقتصاد تقول بأن "الوقت اليوم ليس مواتيا للتفكير". يا له من اعتراف فظيع.

اكتشاف "لماذا" الطفولة
التفكير هو الحياة.. ومع هذا فنحن بحاجة إلى الكلمات. إنه من الضروري أن نفكر حتى ولو لم يعجب ذلك رؤساء القنوات التجارية. التفكير هو الحصن الوحيد المتبقي ضد الهستيريا الجماعية – سواء كان مبعثها البهجة أو الكراهية – التي أفضت دائما إلى تقهقر البشرية نحو البهيمية.

الأهم ليس في الأجوبة التي يُسوّقها لنا المجتمع وإنما في السلسلة الطويلة من الـ"لماذا" الطفولية وفي الاستجواب اللامحدود الذي لا يمكن لأي يقين أن يحسمه: إنه متعة الشك. فمن دون فضول لماذا العيش؟ ليس هناك معرفة دون الرغبة في المعرفة، وهذا ما يجب استثارته: الرغبة. لقد جعل بعض الفلاسفة من أمثال أرسطو من الاستغراب - حتى إزاء الأمور العادية - خطوة أولى لاستقصاء المعرفة.

غير أننا و في عالم يفترض إبهارنا، حيث أضحى فيه التعجب واجبا و كافة التفاهات - لدى الذين لديهم مصلحة في أن نصبح أحمرة – أمورا "رائعة" و"خارقة للعادة" و"عبقرية" إلى أن أصبح التعجب لا يثير تفكير أيا كان: لقد أضحى يلزمنا بالدفع دون تساؤل !. أما الشك، فلقد بات يعلن عن: "الوقت الضائع! ما الذي تقول لي ؟ عليك أن تثبت لي ما تؤكده لي ! عليك أن تشرح !" أما العقل فيقول:" أي شيء ! إنكم تزرعون الشك عوض اقتراح الحلول الصائبة ! إنكم تشيعون الفوضى !" الشك والعقل: هما نقطتا البداية المتينة للانطلاق لنصبح مسؤولين عن أقوالنا وأفعالنا.

الاحتفالية الفكرية
الراحة الفكرية هي الاسم الآخر للغباء
تعتبر الفلسفة فنا للمساءلة وعملية التفكير، وذلك النهم اللامحدود وتلك السلطة المضادة. إنها احتفالية فكرية من حيث استكشافها لمجالات لا تعدُّ و لا تحصى من حقول المعرفة. إنها موقف وجودي لأنها تطالب بقوة ووضوح العدالة والحقيقة.

إننا كلما علمنا أكثر كلما ازددنا شغفا بالمعرفة وهذا بسبب اتضاح رقعة جهلنا وتجلّيها. إننا لا نبلغ أبدا أقاصي العلم، فالمعلوم لا يقلّلُ ولا يحصر رقعة المجهول بل على العكس تماما لأن كلاهما يشرح الآخر في ذات الوقت.

فأنا كلما علمتُ أكثر كلما أصبحت لا أعلم بما هو كفاية. والحق أن هذا يمثل أحيانا معاناة لنا لأننا نكون مجبرين – و لو على مضض – أن نقوم ببعض الخيارات. إن عشر حيوات كاملة لا تكفي لقراءة كل ما يتوجب قراءته ولا لكتابة كل ما أمكن كتابته و لا – بشكل أكثر وطأة – أن نعيش ما بقي لنا أن نعيش! ولكن أليست مواجهة المآزق في نهاية الأمر هو مصير الفلاسفة؟

ومع ذلك، فالفلسفة ليست نشاطا مجانيا غير مغرض وإنما هي نشاط مثير للجدل. إنها تشبه - في أكثر الأحيان - معركة حامية الوطيس بين أطباء العيون بغرض استبدال النظارات التي نرى من خلالها العالم ونعيشه. إنها تسمح لنا بتصحيح رؤيتنا وإيديولوجياتنا وآرائنا وشهواتنا. ولعلها أقوى قوة مضادة للدغمائية والعماء والأفكار المسبقة.

ليس هناك التزام بدون التزام - وبدرجة أقل - من دون إزعاج. الراحة الفكرية هي الاسم الآخر للغباء. لذا وجب التركيز على ضرب الموضع الذي يزعج حقا حتى تنبع لدينا الرغبة في المشاركة بحيوية وبحماس في النقاش - في نهاية المطاف -في حياة المدينة. إن مجرد كلمة مفهومة على النحو اللائق تكفي لألاّ نفكر أبدا بالطريقة القديمة نفسها

العرب اون لاين

21-3-2010 9:22:39