موقوف
- معدل تقييم المستوى
- 0
الذكاء العاطفي
كانت عبارة الذكاء مرادفا لمهارات التفكير والقدرات المعرفية والتحليل المنطقي للمسائل الذهنية، كما بذلت المؤسسات التعليمية كل الجهود للرفع من مختلف مكونات الذكاء بتقوية التفكير الرياضي ومهارات المنطق التجريدي واعتبرت المواد العلمية وخاصة الرياضيات وسيلة لصقل وتنمية الذكاء العام؛ كما أصبح أولياء الأمور يحفزون أبناءهم لنيل أعلى الشهادات وقضاء معظم الأوقات في التحصيل الدراسي والتعمق في مجال معين سعيا لتحقيق التميز وتحقيق الطموحات. إلا أن الكثيرين يكتشفون بعد دخولهم خضم الحياة المهنية ورغم تفوقهم المعرفي في مجال تخصصهم، أنهم غير راضين عن أنفسهم بل قد يجدون الكثير من الصعوبات والعراقيل في علاقاتهم مع زملائهم أو رؤسائهم في العمل، وتمتد معاناتهم العلائقية في حياتهم الشخصية والأسرية. تمحورت النظرة الإجتماعية للنجاح في عدد المؤهلات الجامعية ونوعيتها، وساد اعتقاد أن الشخص الجامعي ذكي وناجح في كل ما يسعى إليه ويحققه؛ ولكن الواقع يثبت أن الأشخاص الأكثر تخصصا والأكثر تعمقا في مجال واحد يجدون صعوبات كبيرة في التأقلم مع أبسط مكونات حياتهم اليومية. لايتحملون الإغاظة من طرف زملائهم في العمل لأنهم جديون وواثقون بعلمهم، فلا يقبلون لأنفسهم أن يتعرضوا لأي مضايقة أو مكيدة، فتنقلب حياتهم إلى أزمة وجدانية يفقدون الثقة بمن حولهم ويتأرجحون بين الإنزواء والعزلة للترفع عن محيطهم الذي يعتبرونه متدنيا أو يندفعون في مواجهات خرقاء يستنزفون فيها طاقاتهم ولا ينتبهون إلا بعد أن يفقدوا الكثير ماديا ونفسيا.
برزت نظرية الذكاء العاطفي في أوائل التسعينات وسعت لسد الفراغ في توضيح ودراسة المهارات العلائقية، فالذكاء هو القدرة على التفاعل مع المثيرات الفكرية وتمحيصها ذهنيا، إلا أن أهمية التأقلم مع المحيط بما يعود بالنفع على الفرد والمجموعة بات عنصرا حيويا. المهارات المنطقية والتجريدية هي أنشطة عقلية فردية وغير علائقية، فلا يعقل أن تستقيم الحياة بين البشر إذا لم يستطيعوا أن يعطوا معاني حسية لتفاعلاتهم. فالألفاظ تظل دون معنى إذا ما لم يتم ربطها بمدلولاتها المعنوية، كما أن النباهة العاطفية تمكن الإنسان من تحليل خلفيات العبارات من معاني عكسية أو إيحاءات غير ملفوظة، أو مقاصد مضمرة؛ والإحساس يجعل فهم الألفاظ نافذا ومباشرا بين المتحاورين، فالحبيب يفهم مقاصد إلفه دون الحاجة إلى تفاصيل لفظية بل قد يستبقه بأحاسيسه لتوضيح المعاني المقصودة، كما أن الأم تفهم همهمة وليدها لتفاعلها معه بأحاسيسها، بينما يحتدم النقاش ويطول الجدل بين الخصمين ويتكلف كل باختيار ألفاظه وتدقيق معانيه والإلتفاف على تعابير ومنطق خصمه إلى ما لا نهاية. فالعاطفة الإيجابية توحد المعاني وتألف القلوب، كما أن العاطفة السلبية تبرز تنافر المعاني المتحدة وتفرق أفراد الجماعة والأسرة الواحدة. عندما يفتقد البعض القدرة على الإحساس بذاتهم وبالآخرين، فهم يلجأون إلى جعل كل تفاعلاتهم وعلاقاتهم قائمة على أساس القواعد دون المقاصد واعتماد اللفظ في التواصل دون المعنى وتبرير البعد في العلاقة وعقلنة التفسير دون إدراك المسببات الفعلية.
الذكاء العاطفي هو ذكاء علائقي ينطبق على فحوى العلاقات بين الأفراد وكذا بين الفرد والجماعة وهو شكل من أشكال الذكاء الإجتماعي، يرتكز على العناصر الخمسة التالية: الوعي بالذات، فهم الذات والتعبير عنها، الوعي بالآخرين فهمهم والتحاور معهم، مواجهة انفعالات عاطفية قوية والقدرة على التغيير وتخطي المشاكل الإجتماعية والشخصية الطارئة. الشخص الذي يعي ذاته لا يبرر سلوكياته ولا يغالط نفسه منطقيا أو لفظيا بل يصل إلى كنه ذاته بكل مصداقية ويتعود على فهم وتفهم ذاته دون انجراف في السلوكيات النرجسية وبعيدا عن جلد الذات، توازن دون تكلف، أما تعبيره فهو من البساطة التي تحاور الصغير والكبير بسلاسة توصل المعاني دون غموض؛ من الذكاء القدرة على الإستفادة من الإنفعالات العاطفية القوية وتوجيهها بمنهجية تدعم ارتقاء الفرد وسمو أحاسيسه أما القدرة على التغيير فأمر يتطلب ليونة في الشخصية ونشاطا وحيوية نفسية وعاطفية تجعله دائب الإقبال على الحقيقة ولا تهز يقينه المظاهر المؤزمة أوالأحداث المفجعة.
الإرادة أو الدافعية الذاتية أهم مرتكز من مرتكزات الذكاء العاطفي، فالأشخاص الذين يتميزون بدافعية ذاتية عالية لا يكترثون للمحفزات الخارجية بل يشعرون بالرغبة للتفاعل مع ما يستهوي ميولاتهم الفكرية والعاطفية ويتحمسون لإنجاز المهام لحبهم لها، وهم مثابرون على عملهم دون ملل، متفوقون في أداءهم لدراسي والمهني ولا تثنيهم الصعاب بل يحبون رفع التحديات التي تصقل كفاءاتهم، والسر في ذلك أن الشخص العالي الدافعية قادر على تركيز كل طاقاته لتحقيق أهدافه، كما أنه لا يستعجل الشعور بالرضا ويستطيع أن يعمل في مهمة دون متعة آنية لأنه يرى سعادته في تحقيق الهدف الفعلي ويأجل حاجته للإعتراف والدعم المجتمعي والمكافأة كاستثمار مستقبلي.
أما أنواع الدافعية عامة فيمكن اختزالها في خمسة أنماط، أولاها الدافعية الذاتية التي تجعل صاحبها ينجز أعماله ويوجه سلوكياته ويحدد أهدافه من صميم ذاته ولا يحتاج للمحيط الخارجي في ذلك؛ ثانيها الدافعية الواقعية حيث يعتمد الشخص النتائج الملموسة أو يرتقب أجرا ماديا أو مكافأة صريحة للقيام بأي سلوك ويحسب الفرد مصلحته بأسلوب واقعي وعملي لإنجاز أي نشاط؛ ثالثها الدافعية المبنية على التوافق مع المجموعة التي يسعى الفرد عبرها للحصول على رضا المجتمع ويتقيد به في كل تصرفاته؛ رابعها الدافعية القائمة على التفرد حيث يعتمد الفرد معاييره الذاتية لإثبات تفرده وفرض كيانه على المجموعة والتأقلم معها على هذا الأساس وآخرها الدافعية التي تنبني على أساس الأهداف وجعل هذه الأهداف ذاتية.
الذكاء العاطفي يتلخص في مهارات التفاعل الحسي العاطفي مع الذات ومع الآخرين بلباقة وغنى عاطفي يسمح بفهم مقاصد الآخرين مهما تعددت مشاربهم وحمولاتهم الفكرية والثقافية والقدرة على العيش بعواطف صادقة دون لبس أو زيف ومعرفة حدود اللباقة ومغزى العبارات والإشارات النفسية التي ينبغي إرسالها للمتلقي وفق كل ظرف، خاصة في مجالات العمل حيث تتأزم العلاقات بسبب المنافسة والمواجهات الخفية والمعلنة واختلالات علاقة الزمالة المهنية بين المرأة والرجل وبين أفراد فريق العمل.
المفضلات