د.أنور عشقيأكون قررت أن :لواء ركن دكتور فحققت ذلك بعد أن حولت أمنياتي إلى أهداف
حياة كل واحد منا جملة من النجاحات والإخفاقات . .
وأجمل شيء أن يترك الواحد منا الحديث عن نفسه، ويدع الآخرين يتحدثون عن إنجازاته ونجاحاته. حسنًا . . وعماذا هو يتحدث إذًا، عن إخفاقاته؟ ربما!
الفشل ليس عيبًا، فهو وقود الانتصارات . .
«المعرفة» تريد من هذا الباب أن تقول للشباب من الجيل الجديد إنه ليس هناك إنسان لم يذق طعم الفشل في حياته، نريد أن نقول لهم إن الجيل الذي سبقهم هو جيل إنساني يخطئ ويصيب . . ينجح ويفشل، ثم ينجح مع الإصرار.
ف: فرصة تمنحك إياها - المعرفة - لتسجيل اعترافاتك.
ش: شهادة.
ل: ليس عيباً أن تفشل . . ولكن العيب أن تزعم أنك لم تفشل في حياتك!
وضيف هذا العدد هو : د.أنور عشقي رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية.


ليس الفشل هو الطريق الوحيد للنجاح، لكن النجاح هو التحدي الكبير في مواجهة الفشل، فالمهزومون هم الذين توقفوا في مسيرتهم الحياتية نحو أهدافهم عند الصعاب التي يواجهونها ويندبون حظهم حتى يتجاوزهم الزمن.
إن النجاح هو تجاوز العقبات، ومواجهة التحديات، والإصرار على التوجه نحو الأهداف، والنجاح يتطلب أمورًا ثلاثة:
الأول: تحديد الهدف.
الثاني: التحلي بروح التحدي.
الثالث: تجاوز حالات الفشل وتخطِّى العقبات.
لقد كان الفشل الأول في حياتي الدراسية هو الذي علمني الإصرار على النجاح، وهو الذي أيقظ في نفسي روح التحدي، يوم كنت أدرس بمدرسة النجاح الأميرية بالمدينة المنورة.
كان والدي يرحمه الله مديرًا للمدرسة، فدعاني الأستاذ محمد إدريس مساعد المدير، وقال لي: هل علمت بالنتيجة؟ قلت: نعم، قال: هل تعلم ما فعلت؟ لقد وضعت والدك في موقف حرج أنت لم تسئ لنفسك فحسب، بل أسأت لوالدك، ماذا يقول عنه المدرسون؟
وماذا يقول الطلاب؟ وماذا يقول أهل المدينة؟ إنهم يقولون إنه يعلم أبناء الناس ويفشل في تعليم ابنــه. أدركــت وقتهـا عظم المسؤولية، فذاكرت حتى نجحت في الدور الثاني، فكان هذا أول فشل في حياتي.
بعد أن تخرجت من الكلية الحربية وأصبحت ضابطًا، التحقت بمعهد اللغات العسكري بالرياض في دورة للغة الإنجليزية، وجدت نفسي الوحيد الذي لا يعرف من هذه اللغة إلا بضع كلمات تلقيتها في المتوسطة، كنت في السادسة عشرة بينما زملائي يتكلمون اللغة الإنجليزية بطلاقة.
كان مدير المعهد المقدم محمد آل الشيخ الذي أصبح فيما بعد مديرًا للمراسم الملكية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، وفي يوم الخميس ظهرت نتائج اختبار نهاية الأسبوع, فكنت الثاني من الأخير، دعاني مدير المعهد مع زميلي الذي كان آخر الفصل وكان يكبرني بعشرين عامًا، وكان أيضًا يعاني ضعف الحصيلة في اللغة الإنجليزية.
قال لنا مدير المعهد: إنكما لا تستطيعان الاستمرار في الدورة، ولابد أن تنسحبا منها، أدركت وقتها معنى الانسحاب, وعلمت أنه الفشل والفضيحة، فقلت للمدير أنا لم أدرس اللغة الإنجليزية من قبل, وزملائي قطعوا شوطًا كبيرًا فيها، لكني أعدك أن أكون من الأوائل، بدأ الاستغراب على وجهه ثم قال: من الأوائل؟ قلت: من الأسبوع القادم.
وفي امتحان الأسبوع الذي يليه كنت السابع في الفصل، بعدها أصبحت الأول، وكنت من المنافسين على الأولية طوال الدورة، علمت وقتها أن الإصرار والمثابرة والاجتهاد هو الأساس في النجاح.
في هذه المرحلة تولدت عندي روح التحدي وأصبحت لا أجد من هو متفوق حتى أسعى إلى أن أكون مثله أو أتخطاه، فكانت النتيجة الحصول على أعلى الشهادات العسكرية شهادة الأركان.
وجدت من زملائي من درس في العلوم المدنية، فعقدت العزم على أن أدرس أيضًا، ثم حصلت على الدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية، لقد كنت أملأ فراغي بالمذاكرة والاطلاع، وكنت في مهماتي العسكرية والسياسية أحمل كتبي معي في كل رحلة فأذاكر فيها وأنا في الزيارات الرسمية، وكنت أقطع بعض رحلاتي لأؤدي الامتحان حتى في مشاركتي مع وفد مؤتمر القمة مع الملك فيصل يرحمه الله كانت كتبي هي الرفيق الأول.
إن النجاح لا يتوقف على تجاوز العقبات والتحلي بروح التحدي، بل لابد من رسم الأهداف.
وهذا هو الأساس في التخطيط الاستراتيجي، لأن تحديد الهدف والمحافظة عليه من مبادئ الاستراتيجية التي أكد عليها (سان تزو) المفكر الصيني قبل ألفين وخمسمائة عام في كتابه الشهير (فن الحرب), وهي التي وضع أسسها النبي صلى الله عليه وسلم حينما بدأ دعوته، فرسم هدفه عندما دعا إلى الإسلام فجمعهم، وقال « قولوا كلمة تحكمون بها العرب وتسودون بها العجم» قال له أبو لهب عشر وأبيك قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، فكانت الهدف الاستراتيجي الذي سعى النبي صلى الله عليه وسلم لتحقيقه.
حينما كنت في العاشرة من عمري كنت في طريقي إلى المدرسة بحارة باب الشامي بالمدينة، كنت أسير مع أخي الدكتور طلال على الأقدام وكنت أكبره بأربعة أعوام، شاهدنا طابورًا من الجيش يسير على إيقاع الموسيقى، والغبار يرتفع من خلفه وأعجبت وقتها بقائد المجموعة المقدم حسن قواص.
أعجبت به كيف يتحكم في هذا الجمع من الجند يأمرهم بالوقوف فيقفون، ويأمرهم بالمسير فيسيرون ونحن نشعر بالخوف من جندي واحد. التفت إلى أخي طلال وقلت له: إن قدر لي الله وأصبحت مثل هذا القائد فسوف أشتري لك قلمًا، لم يمض على هذا المشهد سوى سبعة أعوام، حتى أصبحت مثل ذلك القائد، وفي ذلك المكان أقود طابور الجند بالموسيقى، ووفيت بوعدي وأهديت لأخي طلال القلم عدة مرات لأنه في كل مرة يذكرني بالوعد، وينكر أنه استلمه.
لقد علمت وقتها ماذا يعني تحديد الهدف والإصرار عليه, حتى لو كان الهدف أشبه بالمستحيــل، لأن الله معيــن للإنســان، وقــد قيـل في الأثر: لو تعلق شغف أحدكم بما وراء الثريا لنالها.
وفي المدينة المنورة قررت أن أكمل دراستي المدنية فقررت أن التحق بالثانوية نظام ثلاث سنوات، كنت في الثالثة والعشرين من عمري, وكنت قائدًا للمعسكر بالمدينة المنورة.
اقتضى الأمر أن أستعين بمدرس خصوصي، وأن أحضر بعض الدروس بمدرسة طيبة الثانوية ليلاً، اخترت الأستاذ محمد الخانجي وهو مدرس سوري لأتلقى عليه اللغة الفرنسية، فكنت أستعد للدرس وأراجعه قبل أن أحضر، لهذا أنجزت الكتاب الأول في خمس ساعات فقط مع الامتحانات، أما الثاني فقد أخذ مني ست ساعات.
وفي المدرسة الليلية استأذنت من الأستاذ أحمد بشناق مدير المدرسة أن أحضر الدروس كمستمع، وسمح لي أمد الله في عمره ورزقه الصحة والعافية، وقد تجاوز اليوم المائة، قررت أن أكون طالبًا وأن أعمل بروح الطلاب، لهذا تحملت الإهانة والضرب، ولم أضجر ولم أتذمر.
كان من المواد التي حضرتها الرياضيات، وتعرضت في الحصة الأولى لحرج شديد، كان الأستاذ عصام قاسيًا معي، ففي أول تجربة دخل الفصل وقال من حل الواجب؟ فرفع بعض الطلاب أيديهم، ثم قال: من لم يحل الواجب؟ فرفع الباقي أيديهم، ثم سألني: لماذا لم ترفع يدك هل أنت من قوم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، قلت له: حضرت مستمعًا وإن شاء الله في الحصة القادمة سأكون أول من ينجز الواجب، أجلسني بعد أن نهرني.
كتب مسألة على السبورة فقال في لهجة التحدي من يستطيع حلها؟ لم يتقدم أحد وبعد تكرار السؤال تقدم أحد الطلاب وحاول ففشل، ثم قال لي الأستاذ عصام قم أنت قلت له لا أعرف حلها، نهرني وطلب مني القدوم إلى السبورة، ولما اقتربت قال امسح السبورة، أراد أن يضحك علي الطلاب، لكن الطلاب استهجنوا عمله، وبكل هدوء مسحت السبورة، ثم عدت إلى مقعدي وقررت أن لا أحضر بعد اليوم حصته، وأن ألتمس لنفسي مدرسًا خصوصيًا.
طلبت من مدرس اللغة الفرنسية أن يختار لي مدرسًا للرياضيات، فعدد لي بعض المدرسين الجيدين فرفضتهم، قال لي: إذًا ماذا تريد؟ قلت أريد الأستاذ عصام فتعجب من قولي وقال عصام الذي فعل ما فعل قلت نعم، قال: لماذا وبروح التحدي قلت له أريد أن أعرفه من أنا، وبدأت معه في الدروس الخصوصية، لكن والدي رحمه الله كان قد توفاه الله وشغلت عن الدراسة حتى لم يبق إلا أسبوع على الامتحانات، فجئت إلى الأستاذ عصام وذكرت له الظروف التي مررت بها، قال: إنك لن تستطيع أن تنجح، قلت له سأنجح إن شاء الله، قال: تفضل جرب وفي تلك الحصة التي استغرقت ساعتين ونصف، تلقيت منه اثنتي عشرة نظرية في الهندسة التحليلية، واستطعت حل عشر مسائل، ثم قال: هناك مسألة إن وفقت فيها فإني أضمن لك النجاح، ووفقني الله في حلها، ثم قال: لا يوجد طالب واحد في الثانوية استطاع حلها. إن روح التحدي تجعل الإنسان يصل إلى مبتغاه وعدم التوقف عند الفشل والعقبات تؤهله للنجاح، ومع أني لست من الأذكياء إلا أن الأستاذ عصام ظل يتندر بقدرتي على الفهم واجتهادي إلى أن عاد إلى وطنه.
بعد أن انتهيت من الثانوية، التحقت بجامعة بيروت العربية، واخترت دراسة القانون في كلية الحقوق، وحينما سافرت إلى بيروت للتسجيل وأخذ المواد، كان ذلك في يوم الجمعة وفي الطائرة قرأت المقال الأسبوعي لمحمد حسنين هيكل في الأهرام، وجدته يقول بأن موشي ديان الجنرال الإسرائيلي أرسل إلى ليدل هارت أبي الاستراتيجية يقول له: هل تعلم أن السبب في انتصارنا على العرب في حرب 1967م هو أننا هنا في إسرائيل قرأنا كل مؤلفاتك وفهمناها, والسبب في هزيمة العرب أنهم لم يقرؤوا مؤلفاتك، ومن قرأها منهم لم يفهمها.
ما إن وصلت إلى بيروت حتى ذهبت إلى مكتبة فيصل، التي كانت بجوار السكن الذي اخترته، أمام الجامعة الأمريكية وبحثت فيها عن كتب ليدل هارت فوجدت اثنين منها وقرأتهما، كان الأول يحمل عنوان (الاستراتيجية وتاريخها في العالم)، والثاني (الاختيار الصعب)، ومن يومها شغفت بالعلوم الاستراتيجية، في العام الذي يليه بحثت في نفس المكتبة عن كتب في الاستراتيجية فاخترت كتاب (فن الحرب) للكاتب الروسي الجنرال ستروكوف, وقرأت فيه وأعجبت به ووجدت أنه لواء ركن دكتور، قررت وقتها أن أكون كذلك فلم تمض سوى ستة عشر عامًا حتى كنت لواء وركنا ودكتورا. إن تحديد الهدف والإصرار عليه يعتبر الأساس الهام في النجاح.
لقد حولت الأمنيات إلى أهداف وتمكنت من الوصول إليها، لقد تمنيت أن أكون كاتبًا أسبوعيًا في أوسع الصحف العربية انتشارًا وأكثرها عراقة هي الأهرام واليوم مكنني الله أن أكون كاتبًا فيها بمقال أسبوعي وقد طويت السنة الرابعة وأنا أكتب فيها، وهناك الملايين يتمنون ذلك.
لقد قررت أن أقوم بتأسيس مركز للدراسات الاستراتيجية، ليكون خدمة للبحوث والدراسات، ووضع الحلول لقضايا الأمتين الإسلامية والعربية، وبلغني الله عز وجل فأسسته، واليوم أكمل السنة الخامسة.
ومع كل ذلك, فلم أبلغ مرتبة النجاح لأن هناك أحلامًا وأهدافًا لازلت أسعى إليها، إنني أتمنى للمملكة العربية السعودية التي تعتبر قلعة الإسلام الأولى، ومهد العروبة الأول أن تكون أكبر دولة في العالم، وأتمنى أن ينتشر الإسلام في أنحاء المعمورة، كما أتمنى أن يتحلى المسلمون بروح الإسلام وسماحته.
لقد كنت وأنا أتعلم وأعمل في الولايات المتحدة الأمريكية أسأل الله أن تصبح أمريكا دولة إسلامية ليس بالعنف والقهر، بل بالدعوة إلى الله، ولازلت أتمنى على الله أن يكون لي مسجد في كل بلد عشت فيها، ليشهد لي يوم القيامة، وأن يغفر لي الله ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وماهو كائن إلى يوم القيامة.
إن النجاح إذا كان لذات الإنسان، فليس بنجاح، بل النجاح الحقيقي يكمن في الإنجاز لما فيه صالح البشرية جمعاء، ووجدت أفضل السبل للإنسان أن يلتحق بركب الإسلام، فالذين سعوا للنجاح لذواتهم لم يصلوا إلى أهدافهم، ولم يكتب لهم النجاح الحقيقي، لقد رأيناهم يتهاوون في النهاية لأنهم كانوا أنانيين، إنهم يعيشون بيننا، بنو مجدهم للترفع على الناس، وجمعوا الأموال للتعالي على الآخرين، لكنهم في النهاية فقدوا كل شيء }تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين{.
وقد قيل: كثيرون هم الذين يصلون إلى القمة ثم يستسلمون إلى النوم فلا يلبثون أن يهووا إلى القاع.
المعرفة الارشيفية