عضو مميز
- معدل تقييم المستوى
- 24
النجاح باستثمار أوقات الفراغ
قد يحدث للإنسان أن يجد نفسه فارغاً من العمل لمدة طويلة، كأن يبحث له عن عمل ولا يحصل على ذلك إلا بعد مدة ليست بالقصيرة، أو يقصى من عمله، أو يُعفى، فتمرّ عليه فترة من الزمن وهو فارغ بلا عمل. وهنا يكون الانسان على محك امتحان الفراغ، فهل يستسلم له، أم يتحكم فيه بطريقة تحقق له اغتنامه واستثماره؟ وهل يكون في هذه الحالة قريباً من الله أو بعيداً عنه؟.
إنّ من أول الأمور الأساسية في حالات الفراغ التي قد يصاب بها الإنسان - وبأيّ سبب كان - أن يكون محافظاً على علاقة وارتباط حسنين مع خالقه، ثم بعد ذلك تأتي قضيته التحكم الجدي في وقت الفراغ واستثماره.
والناس من جهة حدوث الفراغ على قسمين:
1 ـ ذوو فراغ طويل.
2 ـ ذوو فراغ قصير.
وبين هذين القسمين درجات ومراتب تعتمد على استغلال الإنسان لوقت فراغه واستثماره له. فهناك من تجده يقول: لقد تعبت من الفراغ، وليس من عمل أقوم به، وهناك من يقول: ليس من وقت لأحكّ شعر رأسي من كثرة الأعمال وزحمتها.
وعموماً فإنّ الإنسان معرّض للفراغ، سواء كان ممن يحرقون الساعات والأيام بلا عمل وجدوى أم كان من الذين يستغلون أوقاتهم وفراغهم. فلكي تستثمر وقتك جيداً، أعلم أن الفراغ أمر قد تصاب به، وهو جزء من وقتك، فأعمل على أن تتحكم فيه وتستثمره بخير.
(فإذا فرغت فانصب).
أشير فيما تقدّم إلى أن القرآن الكريم يوجه الإنسان إلى استثمار عمره في مرضاة الله، في العمل الصالح والحق والخير والفضيلة، في ما يصلح أمر دنياه وآخرته. وحيث أن وقت الفراغ ـ الذي قد يصاب به الإنسان ـ جزء من وقته الكلي، فقد وجهه القرآن الحكيم أيضاً إلى اغتنامه واستثماره.
قال تعالى في سورة الإنشراح: (ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك. الذي أنقض ظهرك. ورفعنا لك ذكرك. فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً. فإذا فرغت فانصب. وإلى ربك فارغب)
تتناول السورة الكريمة شرح الله وبسطه لصدر الرسول الأعظم بعد المصاعب والمتاعب الثقيلة التي واجهها بسبب الدعوة إلى الإسلام، وتبين أنّ الصعوبات والأتعاب يعقبها إنفراج ويسر. ثم تنتقل إلى موضوع اغتنام الفراغ وتوجيهه في مرضاة الله.
يقول العلامة السيد حسين الطباطبائي في تفسيره للآيتين الكريمتين (فإذا فرغت فانصب. وإلى ربك فارغب): (خطاب للنبي (ص) متفرع على ما بُيّن قبل من تحميله الرسالة والدعوة، ومنّهُ ـ تعالى ـ عليه. بما منّ من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، وكل ذلك من اليسر بعد العسر).
(وعلي فالمعنى إذا كان العسر يأتي بعده اليسر، والأمر فيه إلى الله لا غير، فإذا فرغت مما فرض عليك، فاتعب نفسك في الله ـ بعبادته ودعائه ـ وأرغب فيه ليمنّ عليك، بما لهذا التعب من الراحة، ولهذا العسر من اليسر.).
(وقيل: المراد إذا فرغت من الفرائض فانصب في النوافل. وقيل: المراد إذا فرغت من دنياك فانصب في آخرتك، وقيل غير ذلك، وهي وجوه ضعيفة).
ويهمنا مما تقدم ما يلي:
1 ـ إنّ تعب المشقة، أو التعب الذي يبذله الإنسان في استغلاله لأوقاته في العمل الصالح، يعود عليه باليسر والراحة والفائدة.
2 ـ أن ينشغل الإنسان بالواجبات والفرائض أولاً، وبعدها بالمندوبات والنوافل، وليس العكس (مراعات سلّم الأولويات).
3 ـ أن يكون الإنسان في وقت فراغه ـ كما في سائر أوقات العمل ـ مقبلاً على الله، راغباً إليه ليزيده توفيقاً ونجاحاً.
4 ـ أنّ من الحالات التي قد يصاب بها المرء بعد إنجازه للأعمال ـ وخصوصاً تلك التي يبذل فيها جهداً كبيراً ـ الفتور والتراخي وترك مواصلة بذل الجهد، والعُجب، وبالتالي الوقوع في الفراغ، والانخداع بالوقت. وهذه من الحالات التي ينبغي للمرء الانتباه إليها، لتلافي الوقوع فيها.
قم بتوظيف الوقت توظيفاً منتجاً
يمثل الوقت قيمة من القيم الثابتة والخالدة, فالحياة إنما تقوم بالزمن, وحياة الإنسان إنما تقاس بتوظيف الزمن توظيفاً منتجاً, ولذلك لا يمكن حساب عمر أي إنسان بمقدار ما عاش, وإنما بمقدار ما أنتج واستثمر من الزمن..فهذا هو العمر الحقيقي للإنسان.
وقد أعطى الإسلام للوقت أهمية قصوى, وأكد على وجوب استثماره وتوظيفه في العمل الصالح, ومما يدل على ذلك هو أن الله سبحانه وتعالى قد أقسم في كتابه الحكيم بمفردات الوقت وبعض أجزائه كاليل والنهار والفجر والصبح والضحى والعصر.. يقول الله تعالى: (والليلإذا يغشى والنهار إذا تجلى), ويقول تعالى: (والفجر وليال عشر), ويقول تعالى: (والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس), ويقول تعالى والضحى والليل إذا سجى), ويقول تعالىوالعصر إن الإنسان لفي خسر), ومن المعروف عند المفسرين أن الله سبحانه وتعالى إذا اقسم بشيء فهذا يدل على أهميته وعظمته وقيمته العالية.
وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على ضرورة استثمار الوقت, ونهى عن تبديده فيما لافائدة منه, فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله :"بادر بأربع قبل أربع: شبابك قبل هرمك, وصحتك قبل سقمك, وغناك قبل فقرك, وحياتك قبل موتك", فالنبي عليه الصلاة والسلم يحثنا على الاستفادة من الوقت قبل الهرم, والإصابة بالسقم والمرض, أو الانشغال بالفقر, أو الموت .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً وهو يحثنا على اغتنام العمر في العمل الصالح :"كن على عمرك اشح منك على درهمك ودينارك", ويقول أيضاً :"إن العمر محدود لن يتجاوز أحد ماقدر له, فبادروا قبل نفاد الأجل".
والوقت يمضي بسرعة, وكل ساعة تنتهي لن تعود أبداً, إذ أن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء اطلاقاً ويقول الإمام علي (رضي الله عنه) :"ما نقصت ساعة من دهرك إلا بقطعة من عمرك", وعمر الإنسان محدد بأجل معين, وكل يوم يمضي لن يعود, بل ينقص من العمر بقدره, ويقول الإمام علي أيضا :" إنما أنت عدد أيام, فكل يوم يمضي عليك يمضي ببعضك فخفض في الطلب وأجمل في المكتسب".
والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك كما تقول الحكمة الشهيرة, ولا يدرك هذه الحقيقة إلا من تعامل مع الوقت كسلعة ثمينة, أما من يتعامل معه كسلعة زهيدة, فلن يفهم أهمية الوقت وضرورة استثماره إلا بعد فوات الأوان.
إن الزمن لاينتظر أحداً, فهو يتحرك بسرعة مبرمجة, بغض النظر عما إذا كنا ندرك ذلك أم لا, فالليل والنهار يتحركان طبقاً للنظام الكوني الدقيق, والزمن يتحرك بدون توقف, ولذلك قال الإمام علي :" إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما, ويأخذان منك فخذ منهما", ويقول أيضاً :"ما أسرع الساعات في اليوم, وأسرع الأيام في الشهر, وأسرع الشهور في السنة, وأسرع السنين في العمر", فلنعمل بكل جد واجتهاد, ولنستثمر كل لحظة من لحظات أعمارنا, ولتكن دنيانا مزرعة لآخرتنا".
المفضلات