هل من ترياق يأخذه المرء منا فينسى أحزانه وآلامه وشجونه ؟

أو هل من طبيب يعالج فينا عضلة التذكر فتتخدر، وتطمس حينها الذكريات حزينة؛ فلا نتذكرها ثانية؟


يقول زكي مبارك: " أحب أن أنسى ولكن.. أين بائع النسيان؟ ".

أين من يضمد الجراح، ويُسلّي الروح، ويربت على القلوب الحزينة الملتاعة؟

ولا أظن أن واحداً منا لم ينادِ يوماً على بائع النسيان ليبيعه شيئاً من بضاعته!

فما من امرئ إلا ولديه ما يحتاج إلى نسيان.. كلنا نمتلك ملفات في صندوق

ذاكرتنا، يجب أن تُحرق تماماً : علاقة مُحطمة .. كبوة قاسية .. فشل

ذريع .. أمل لم نبلغه .. غاية لم ندركها ..

أشياء وأشياء يكفي تذكرها كي يلتاع الفؤاد وتهيج الروح.

فكيف ننسى؟،
كيف ننطلق للأمام غير عابئين بالماضي وآلامه، متخطين أحزانه وجزعه وأهواله؟

وفي الحقيقة إن النسيان أمر صعب، إن لم يكن مستحيلاً؛ وذلك لأن الذاكرة يستهويها الاحتفاظ بالتفاصيل المؤلمة، وتهوى أرشفة الحزن والألم واللوعة.

لكننا نستطيع أن نقفز فوق آلامنا وأحزاننا، إن لم نستطع نسيانها؛ وذلك بفعل ما يلي:

لا تُقِم مأتما بقلبك
ما أعجب بني البشر، يلعنون الحزن بَيْد أن له في قلوبهم هوى وعشقاً، ومُعظم من قابلتهم من البشر يدمن الحزن، ويتلذذ بدقائق الشجن ولحظات اجترار الأحزان.. إننا -مع الأسف- نهوى إقامة المآتم في قلوبنا؛ فنبكي على حبيب قد غدر، وصديق قد خان، ودهر يتقلب فتتقلب معه أحوالنا، نذرف الدمعة تلو الأخرى، ونتذكر ما كان كل دقيقة وثانية، دون أن نحاول غلق باب التذكر.


وهل يجلب الحزن مثل التذكر؟

هل ينكأ الجرح مثل العبث به، والضغط عليه، بدلاً من تجاهله ونسيانه؟

وهل يمكننا التعافي ونحن نبحث عما يساعدنا على اجتلاب ما يعيدنا إلى اللحظة التي نتمنى نسيانها؟

يا صديقي.. إذا ما أحببت أن تعلو فوق أحزانك؛ فيجب أولاً أن تهدم ذلك

المأتم الذي أقمته بداخلك، ولن يكون ذلك إلا بالكفّ عن الدوران حول

الموقف أو الحدث المؤلم الحزين، واسترجاع ما من شأنه أن يعيدك في ثانية إلى

ما يحزنك، يجب أن تُشغل القلب والنفس والروح بما يستنهض عزمك

وطموحك وأمانيك، أن تؤمن بأن أفضل ما في الحياة لم يأت بعد فتنطلق إليه،

وبأن أحزانك الماضية ليست سوى نوع من الضريبة التي ندفعها نظير العيش في

عالم كُتِب علينا أن نعيشه في كمَد وكبَد؛

مصداقاً لقول ربنا {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}.

افتح صندوقك الأسود
فكما أننا بحاجة إلى هجر التذكر الدائم للآلام والمصائب؛ فإننا بحاجة كذلك


إلى الحديث عما يؤلمنا، وفتح الصناديق السرية التي نحتفظ فيها بأحزاننا؛ وذلك

لأن إغلاق القلب على الشيء المؤلم خطر، تماماً كمداواة جروح الجسد دون

إخراج الشظايا التي دخلته؛ فعاجلاً أو آجلاً سينتشر ما دفناه بالداخل، ويدمر

كل شيء، وعندها فقط ندرك أننا كنا نخدع أنفسنا، وبأننا لم نتطهر بعد.

ليس في الأمر تضاد يا صاحبي؛ فالحديث عن الأحزان مُهم، وقديماً قال

شاعرنا أبو علاء المعري:

إذا ما عراكم حادث فتحدثوا .... فإن حديث القوم يُنسي المصائبا

سنحتاج في أوقات ما أن نفتح بوابة القلب، ونُخرج ما يحزننا، شريطة أن

يكون لمن نثق به، ونثق بقدرته على الاحتواء والنصح، وجميل الإنصات والتفهم.

ليس حديثاً سوداوياً موصولاً؛ وإنما بوح وشكوى، وطلب معونة ودعم، نتذكر خلالها ضعفنا البشري، ونقف على الحدود الحقيقية لقدرتنا، ونقطف العِبرة والمثال، وبعدها ننسى ما كان، ونعود إلى سابق حياتنا.

ثق بربك
أن تكون هذه آخر النصائح ليس لكونها الأقل أهمية؛ بل كي تكون خاتمة


القول؛ فلا تُنسى أبداً.. فمَن غير الله يُعين المرء على نسيان آلامه وأحزانه؟

ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ بالله من "الهم والحزَن

فهو دعاء والتجاء إلى الله أن يُذهب عنا الهموم والأحزان، ثم يجب أن يكون

المرء منا بجانب ذلك متفائلاً بأن الغد أفضل من اليوم؛ فالتفاؤل جزء من طبيعة

الإنسان المسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: "تفاءلوا بالخير تجدوه"، ويقول

ربنا جل اسمه في الحديث القدسي: "أنا عند ظني عبدي بي؛ فليظن بي ما يشاء"؛ فجعل ثقتنا به، وحُسن ظننا بتقديره أول درجات الراحة والهناء، وفي المقابل فإن تشاؤمنا وحزننا، وتزعزع ثقتنا بحوله وقوته بداية السوء والهلاك.

يا صاحبي.. ليس في محكمة الحياة استئناف! أحكام ربنا نافذة، لن يُجدي معها معارضة أو صراخ أو عويل.


إن قضى بحُكم؛ فإن أفضل ما نفعله أن نُسلم له تسليماً مُطلقاً نهائياً، أن نقول

كما علّمنا حبيبنا صلى الله عليه وسلم: "قدّر الله وما شاء فعل"؛ فالتسليم

بالمشيئة أحد أفضل ما يقوم به العقلاء؛ بينما العويل والشكوى دلالة على

اهتزاز العقل واضطرابه، وهو أيضاً دليل على ضعف الإيمان واهترائه.