قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة183

إنََّ الصيامَ لايتحدد بالإمتناع عن الأكل والشرب وتناول المفطرات الأخرى فحسب
بل يتعدَ إلى أبعد من ذلك قاصداً بناءَ الباطن وتطهيره تكميلاً لبنيويةالإنسان في الظاهر والباطن .

لذا لم يعرض القرآن الكريم لهذه الحالة حالة الإمتناع عن الأكل والشرببالأهمية بقدر ما عرضَ للغاية والغرض الواقعي وهو تحصيل التقوى فعلاً

و حتى إستعمال القرآن الكريم لمفردة(لعلّ) والتي تفيد معنى الترجيوالطمع في الحصول على ميزة التقوى فيه من العناية بذلك بوضوح
فالقرآن الكريم جعل الصوم بعباديته المتجسدة ظاهرا بالإمتناع عن الأكلوالشرب وتناول المفطرات في النهار مؤقتا طريقا للوصول الى التقوى

لذا جاءت مفردة (لعلكم تتقون) في محلها ووعيها لتشي بأنََّالموصل الى التقوى هو التقوى في الإمتناع عن تناول المفطرات إبتداءًلابجعل الصوم عادةً وهوايةً قد إعتادها الإنسان بشريا وسنويا.

والمهم بعد ذلك كله أن يشغل الصائم نفسه وقلبه بذكر الله تعالى

فيكف نظره عن ما يحرم النظر إليهويكف سمعه عن كل ما يحرم سماعه من الغيبة والنميمة والغناء وكلام الباطل واللغوويحفظ لسانه عن جميع المحرمات اللسانية كالسب والشتم وقذف اعراض الناس وذكر معايبهم وغيرها كثيرويكف بطنه وفرجه عن الحرام والشبهات

ففي الحديث الشريف يوجد تركيزٌ على هذا العنوانوورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال
( إنما شيعة علي من عفّ بطنه وفرجه وإشتد جهاده وعمل لخالقهورجا ثوابه وخاف عقابه فإذا رأيتَ أولئك فإولئك شيعة جعفر): الكافي: الكليني: ج2 : ص233.

وينبغي أخلاقيا وتقوائيا للصائم أن لايستكثر وقت الإفطار من الأكل والشرببحيث يمتلىء في بطنه متناسياً مَن حوله ممن لايجد قرص الخبزومَن يتضور جوعافالإمتلاء من الأكل الحلال فيه مبغوضية وهذه المبغوضية تأتي من كونهازيادةً وإفراطاً قد يُشبِع بها جائعٌ آخر .

وإنَّ ألله تعالى وبحسب مايَفهم علماء الأخلاق والعرفانإنما شرّع الصوم حتى تنكسر القوة الشهوية في النفس البشرية والتيقد إعتادت على الأكل والشرب دونما أن تأخذ قسطا وافرا من الإ متناعالمؤقت والذي معه تهدأ فورة الشهوة البشرية

وتتقوى النفس المؤمنة بالصوم على التقوى وتترفع عن مستوى الأكلوالشرب تاركةً لكيانيِّتها المجال ولو المؤقت في النهار بضرورة التشبهبالملائكة الكرام الذين لايأكلون ولايشربون وإن كانوا هم خلقٌ مختلف عنّا تماماولكن نحن وإياهم في وقت الصيام نشترك بصفة واحدة وهي الكف عن المفطرات .

من هنا يكون إمكان التشبه بهم سلوكيا.بل ربما نفوقهم في هذه الميزة لأننا نحن بني الإنسان إنما نترك الأكلوالشرب والمفطرات طوعا وهم أصلا وخلقا غير محتاجين لذلك

فكيف ما كان لابد من وعي الغرص الأصلي من تشريع الصيام وهو الوصولالى التقوى الفعلية وتنشيطها ميدانيا في أوساط المجتمع وخصوصا الفقراءوالمحرومين وضرورة مواساتهم بالعون المالي والغذائي قدرالمستطاع

وقد قال رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلّم)في خطبته الشهيرة الخاصة بشهر رمضان

( وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم وارحموا صغاركم، وصلوا ارحامكم )
: الأمالي: الصدوق: ص154.

وأخيرا ينبغي بكل إنسان مؤمن صائم أن يكون قلبه بعد الإفطار مُعلقاً بينالخوف من الله ورجاء رحمته وثوابهإذ ليس يدري الإنسان الصائم أيقبلُ صومه فهو من المقربين أم لا ؟

وروي : ( أنَّ الإمام أبا محمد الحسن المجتبى مر بقوم يوم العيد ، وهم يضحكون ،
فقال
( إنّ الله تعالى جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه ، يستبقون فيه لطاعته ،فسبق أقوام ففازوا ، وتخلف أقوام فخابوا فالعجب كل العجب للضاحكاللاعب في اليوم الذي فاز فيه المسارعون وخاب فيه المبطلون ،أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسئ عن إساءته )
أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب ، وحسرة المردود تسد عليه باب الضحك .

: جامع السعادات:الشيخ محمد مهدي النراقي: ج3:ص 304.