عندما تتعب الروح ما هو العلاج..علم النفس...مفهوم الذات

عندما يتعب الجسم فالعلاج هو بالراحة، ولكن ما هو العلاج عندما تتعب الروح؟

لقد ثبت أن التعب النفسي يحطم الانسان أكثر من التعب الجسمي، ومعالجته لا تكون بالراحة والسكون حتماً.

إن التعب النفسي هو واحد من المعوقات الرئيسية لنمو الانسان في شخصيته الداخلية، وعلاقاته الاجتماعية. ولذلك كان لابدّ من تسليط الضوء عليه ببعض التفصيل، فليس هناك ما يوهن العزيمة أكثر من القصور عن النجاح والتخلف حيال جدار يسد الطريق ويحول دون التقدم فينتهي الأمر بالدوران في حلقة مفرغة فالفشل يولّد التعب، والتعب يبعث على استصعاب العمل، واستصعاب العمل يفضي إلى الإخفاق.

ويعاني المرء وطأة التعب في مجالين رئيسيين: تعب البداية، وتعب الأداء.

ففي الحالة الأولى، يستمر المرء في تأجيل الشروع في عمل هو ملزم على نحو ما بإنجازه، وذلك إما بسبب طبيعة العمل المملة، أو بسبب صعوبته، فيميل إلى التهرب منه. وكلما طالت مدة التأجيل كلما تزايد شعور المرء بالتعب.

وتعب البداية تعب حقيقي بالفعل، وإن لم يكن في الواقع تعباً بدنياً ينتاب العضلات ويرهق العظام. ولهذا النوع من التعب، علاج جلي واضح، على الرغم أنه غير سهل التطبيق، عنيت به ممارسة الإرادة.

أمّا تعب الأداء فهو أمر تتطلب معالجته مزيداً من الصعوبة بحيث أن المرء، في هذه الحال، لا يتقاعس عن الشروع في العمل، وإنما يبدو قاصراً عن إنجاز المهمة التي يقوم بها، لأسباب لا يمكنه التغلب عليها مهما بذل من الجهد، فينتابه الفشل تلو الفشل وتتراكم صدماته عليه ويتفاقم لديه، من جراء ذلك، عبء الشعور بالإجهاد العقلي.

فإذا كان التعب هو من نوع تعب البداية، فإن هنالك أحد حلّين:

إمّا أن تبدأ من الأسهل فالأصعب، وذلك هو طريقة أغلب الناس الذين يبحثون عما يريحهم. وقد لا يكون ذلك طريقة ناجحة، حيث يبقى كما هو مصدر إزعاج في مكانه ويضغط على الأعصاب.

وإمّا أن تبدأ بالأصعب، فتفكّ مشكلته. وهذا ما يوصي به رئيس تحرير دائرة المعارف البريطانية "مورتيمر آدلر" من خلال تجربته الشخصية، فيقول: عندما أشعر بأنني أتأبّى القيم فوراً بعمل معين وأحاول أن أتنصل منه فأدسه تحت كومة من الملفات الأخرى التي يتعين عليّ أداؤها، فسرعان ما أبادر إلى إخلاء مكتبي من كل الملفات ما عدا ملف هذه المهمة بالذات، وأتصدى لإنجازها قبل سواها على الاطلاق.

فإذا شئت أن تتجنب "تعب البداية"، فعليك دائماً بالتصدي أولاً لأصعب المهمات.

ويقول الرجل: "منذ سنوات، حينما كنت أعد للنشر سلسلة "الروائع في عالم الغرب"، شرعت في كتابة مائة ومقالين يتناول كل منها الفكرة الكبرى التي ناقشها كل من مؤلفي تلك الكتب. وقد استغرقت مني كتابة هذه المقالات التي كنت أعني بها إلى جانب أعمالي الأخرى، عامين ونصف عام، طوال سبعة أيام في الأسبوع. ولو كنت سمحت لنفسي بأن أتصدى أولاً للأفكار التي بدت لي سهلة بالنسبة إلى غيرها، لما كنت انتهيت أبداً من ذلك العمل، ولكنني التزمت بالقاعدة التي وضعتها لنفسي فصمّمت على أن أكتب المقالات بالترتيب الأبجدي الصارم من دون أن أتخطى أي فكرة صعبة. وكنت أبدأ يومي دائماً بالعمل الصعب الذي تمثله كتابة المقالات، وفي النهاية أثبتت الخبرة، مرة أخرى، أن هذه القاعدة مثمرة تماماً".

* * *

أمّا عن تعب الأداء فإن الذي يجب القيام به هو ضرورة بذل أقصى ما هو مستطاع من الجهد، ثم ترك الأمر في عهدة العقل الباطن.

وهذا أيضاً ما يوصي به الرجل السابق نفسه، ويقول في ذلك: "عندما كنت أخطط للطبعة الخامسة عشرة من "دائرة المعارف البريطانية"، كان عليّ أن أضع قائمة محتويات موضوعية لمقالات الموسوعة وفقاً للترتيب الأبجدي، وبما أنه لم يسبق لهذا العمل مثيل، ظللت أتطلع إلى الحلول يوماً بعد يوم، ولكنها كانت تقصر كلها دون الهدف المنشود، فتراكم عليّ التعب الذهني حتى كاد أن يغلبني.

وذات يوم، وقد أنهك عقلي، دوّنت على الورق أمامي جميع الأسباب التي حالت دون حل هذه المشكلة، وأخذت أقنع نفسي بأن ما يبدو غير قابل للحل هو "بالفعل" غير قابل للحل، وأن مصدر الحرج كامن في المشكلة نفسها وليس فيّ أنا. وبعد أن انتهيت من ذلك إلى مقدار من الإحساس بالارتياح اتخذت مقعداً مريحاً واستغرقت في النوم.

وبعد ساعة تقريباً، استيقظت فجأة لأجد الحل واضحاً في ذهني. وفي الأسابيع التي أعقبت ذلك كانت كل خطوة في تقدم العمل تحمل إليّ دليلاً جديداً على صواب الحل الذي استنبطه عقلي الباطني. وعلى الرغم من أن مشقة هذا العمل لم تقلّ عن ذي قبل ـ إن لم تكن قد زادت ـ إلاّ أن هذا العناء لم يصاحبه أي إحساس بالسأم أو الإرهاق وغدا النجاح الآن حافزاً لي ومشجعاً، بمقدار ما كان الفشل باعثاً على التخاذل والوهن. وأحسست بتلك البهجة الناشئة عمّا يطلق عليه علماء النفس اسم (التدفق)".

* * *

وعلى كل حال، فإن أهم خطوة يجب اتخاذها لمعالجة التعب النفسي، هو أن نحاول اكتشافه، وهذا يتطلب أن نتخذ من التعب الذي يتعذر تعليله ولا يعود أمره إلى سبب بدني نذيراً يحملنا على رد هذا التعب إلى مصدره الحقيقي، فنجدّ في البحث عن الهزيمة التي نحاول سترها ولا نبغي الاعتراف بها. وعلينا بعد ذلك أن نشخّص سبب هذا الفشل. وقد نجد في بعض الحالات النادرة أن المهمة في حقيقة الأمر صعبة التحقيق وأنها تتجاوز طاقتنا. فإذا كانت الأمور كذلك، فما علينا إلاّ أن نسلّم بحقيقة الوضع ونعتذر عن المضي فيه. وقد تكون العقبة كامنة في تأبّينا مواجهة المشكلة، وهنا يكون الحل في معظم الحالات توجيه اهتمامنا بصبر ومثابرة إلى العمل المطروح ومعالجته بكل ما نملك من مهارة وعزم، مع الاعتماد على إلهام عقلنا الباطن.

وإذا ما ساورتك المشاكل المستعصية، توقف بعض الوقت عن التفكير الواعي فيها، وافسح المجال لعقلك الباطني كي يعينك على حلها، فإنه لن يخذلك في تسع حالات من عشر ويوحي إليك بايحاد الحل.

وأما الخطأ الأكبر فهو أن نعتبر التعب العقلي وكأنه تعب بدني. ففي حال التعب البدني، نستطيع أن نبرأ منه بأن نتيح لأجسامنا فرصة الراحة، لكن التعب العقلي الناتج عن الفشل لا يمكن التخلص منه بالاستسلام له واللجوء إلى الراحة لأن ذلك يزيد المشكلة تعقيداً. وأياً تكن العقبة النوعية التي تعترض الطريق، فلابدّ من إزالتها، وبسرعة، قبل أن يكتسحنا تعب الفشل.

إن قوة الروح تكمن في أحيان كثيرة في القدرة على التفوق على التعب، كما تكمن في التغلب على اليأس والغرور، وكل السلبيات النفسية.