نموذج للتغيير القرآني:
للقرآن تأثيرٌ عجيبٌ في نفس من يُحسِن استقباله والتعامل معه على حقيقته ككتاب هدايةٍ وشفاء، فمن شأنه أن يُحْدِث انقلابًا جذريًا شاملاً في شخصيته، فيعيد صياغتها وتشكيلها من جديد على ما يحب الله عز وجل ويرضى، فإن كنت في شكٍ من هذا فتأمل معي ما حدث للصحابة-رضوان الله عليهم- والذين كانوا قبل إسلامهم غاية في الغرابة والجاهلية، ليدخلوا بهذه الحالة إلى مصنع القرآن ثم يخرجوا منه أُناسًا آخرين تفخر بهم البشرية حتى الآن.
إنه لأمرٌ عجيب يشهد بقدرات هذا الكتاب على إحداث التغيير الجذري في النفوس-أي نفوس-، وإلا فمن يصدق أن أُمَّةً تعيش في الصحراء، حُفاة عُراة فقراء، بلا مُقوّمات تُذكَر، لا توضع في حسابات القوى الكبرى آنذاك، فيأتي القرآن ليغيرها ويعيد صياغة شخصيتها وكيانها من جديد، ويرفع هامات أبنائها إلى السماء، ويربط قلوبهم بالله ليكون وحده هو الغاية والمقصد؟! حدث كل هذا في وقتٍ قصير.. سنوات معدودات كانت كفيلةً بإحداث هذا التغيير الجذري.. فماذا كانت النتيجة؟ تحقق الوعد الذي وعد الله به عباده إذا ما قاموا بتغيير ما بأنفسهم، كما قال تعالى:{إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}[الرعد: 11]. ففي سنوات معدودة خرجت القوة الجديدة من قلب نفس الصحراء لتحطم الإمبراطوريات، وتقلب الموازين، وتؤول لها القيادة والريادة، {ومَن أوفى بعهده من الله}[التوبة: 111].

لماذا غيَّر القرآنُ الصحابة؟!
الذي مَكَّن القرآن على إحداث هذا التغيير الجذري في جيل الصحابة هو حسن تعاملهم معه، بعد أن أدركوا قيمته وفهموا المقصد من نزوله. ولقد كان أستاذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتهم في ذلك؛ فلقد عايش صلى الله عليه وسلم القرآن بكيانه كله وانصبغت حياته به، حتى صار وكأنه قرآنٌ يمشي على الأرض، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه. كان صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآنَ قراءةً متأنية مُتَرسِّلة، فيرتل السورة حتى تصبح أطولَ من أطول منها، ولقد ظل صلى الله عليه وسلم ليلةً كاملةً يردد في صلاته آيةً واحدةً وهي قوله تعالى:{إنْ تعذبهم فإنهم عبادُك وإنْ تغفر لهم فإنك أنت العزيزُ الحكيم}[المائدة: 118]. بل إنك لتعجبُ من قوة تأثير القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يخبرنا بقوله:" شيبتني هودٌ وأخواتها قبل المشيب"[صحيح الجامع الصغير، ح(3721)].
أما تأثير القرآن على الصحابة؛ فخَيرُ دليلٍ عليه هو واقعهم الذي تبدل، واهتماماتهم التي تغيرت، فإنْ أردتَ مثالاً لكيفية معايشة الصحابة للقرآن وقوة تأثيره عليهم، فانظر إلى أمر عَبَّاد بن بِشْر الذي كان يتبادل حراسة المسلمين مع عمَّار بن ياسر في غزوة ذات الرِّقاع، فطلب من عمار، وقد كان مُجْهَدًا، أن ينام أول الليل ويقف هو، فلما رأى أن المكان آمِنٌ صلى، فجاء أحد المشركين فرماه بسهمٍ فنزعه وأكمل صلاته، ثم رماه بسهمٍ ثانٍ فنزعه وأكمل صلاته، ثم رماه بثالثٍ فنزعه وأنهى التلاوة وأيقظ عمّارًا وهو ساجد، فلما سأله عمار لِمَ لَمْ يوقظْه أول ما رُمي أجابَ: (كنت في سورةٍ أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفدها، فلما تابع عليَّ الرمي ركعتُ فآذنْتُك، وأيْم الله؛ لولا أن أُضيع ثغرًا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفدها)[السيرة النبوية لابن هشام].

بركة القرآن:
إذن فقيمة القرآن الحقيقية تكمن في معانيه، وقدرته على إحداث التغيير الجذري لقارئه، وإعادة صياغة عقله، وبث الروح في قلبه، وترويض نفسه، ليخرج منه عالمًا بالله عز وجل، عابدًا له بإخلاصٍ وعلى بصيرة، وهذا لن يتحقق بمجرد القراءة العابرة باللسان فقط، ولو تمَّ ختمه بهذه الطريقة آلاف المرات.
وهذا ما كان يؤكد عليه الصحابة-رضوان الله عليهم-؛ فقد قيل للسيدة عائشة-رضي الله عنها-: إن أُناسًا يقرأ أحدهم القرآن في ليلةٍ مرتين أو ثلاثًا، فقالت: قرؤوا ولم يقرؤوا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم ليلة التمام فيقرأ سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء، لا يمر بآيةٍ فيها استبشارٌ إلا دعا الله تعالى ورغب، ولا يمر بآيةٍ فيها تخويفٌ إلا دعا واستعاذ[أخرجه ابن المبارك في الزهد]. وعن أبي جسرة قال: قُلتُ لابن عباس: إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث، فقال: لأَنْ أقرأ البقرةَ في ليلة فأدَّبَّرها وأُرَتِّلها أحب إليّ من أن أقرأ كما تقول[فضائل القرآن لأبي عبيد]. ومن وصايا ابن مسعود-رضي الله عنه-: لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقِفُوا عند عجائبه، وحَرِّكوا به القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدكم من السورة آخرها[مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر]. ويؤكد على هذا المعنى الآجري في كتابه (أخلاق حملة القرآن) فيقول: (والقليل من الدرس للقرآن مع التفكر فيه وتدبره أحب إليّ من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر فيه، وظاهر القرآن يدل على ذلك، والسُّنة وأقوال أئمة المسلمين. سُئل مجاهد عن رجلٍ قرأ البقرة وآل عمران، ورجلٍ قرأ البقرة، قراءتهما واحدة، وركوعهما وسجودهما وجلوسهما، أيهما أفضل؟ فقال: الذي قرأ البقرة، ثم قرأ:{وقرآنًا فَرَقْنَاه لِتَقْرأهُ على الناس على مُكْثٍ}[الإسراء: 106].

حالنا مع القرآن:
يا أخي؛ أنت تعلم أن القرآن الذي بين أيدينا هو نفس القرآن الذي كان مع الصحابة، وهو الذي صنع منهم هذا الجيل الفريد!! فما الذي تغير؟! لماذا لم يَعُد القرآنُ يُنْتِج مثل هذه النماذج؟! هل فقد مفعوله؟!
حاشاه أن يكون كذلك، وهو المعجزة الخالدة إلى يوم القيامة. إذن فالخلل فينا نحن، فمع وجود المصاحف في كل بيت، وما تبثه الإذاعات ليلَ نهارَ من آيات القرآن، ومع وجود عشرات بل مئات الآلاف من الحُفَّاظ على مستوى الأمة وبصورةٍ لم تكن موجودة في العصر الأول، إلا أن الأمة لم تَجْنِ ثمارًا حقيقيةً لهذا الاهتمام بالقرآن... لماذا؟ لأننا لا نوفر للقرآن الشروط التي يحتاجها لتظهر آثار معجزته، ويقوم بمهمة التغيير؛ فلقد اقتصر اهتمامنا بالقرآن على لفظه، واختُزِل مفهوم تعلُّم القرآن على تعلم حروفه وكيفية النطق بها، دون أن يصْحَب ذلك تعلم معانيه، وأصبح الدافع الرئيسي لتلاوته هو نيل الثواب والأجر دون النظر إلى ما تحمله آياته من معانٍ هادية وشافيةٍ، مما جعل الواحدَ منا يسْرَحُ في أودية الدنيا وهو يقرأ القرآن، ويُفاجَأ بانتهاء السورة ليبدأ في غيرها، ويبدأ في السرحان مرةً أخرى، دون أن يجد حرجًا في ذلك، بل إنه في الغالب ما يكون سعيدًا وفَرِحًا بما أنجزه من قراءةٍ كَمًّا لا كَيْفًا. نُدير مؤشِّر المذياعِ على صوت قارئ القرآن ثم نتركه يرتل الآيات، ويخاطب بها الجدران، ثم ينصرف كلٌّ مِنّا إلى ما يشغله.