خدمة الآخرين طريق السعادة .. ؟؟











إنّ النظرة المتأملة في أهداف الشريعة ومقاصدها تعطي البصير صورة باهرة عن تأكيدها على دور التعاطي الإنساني في سعادة البشرية في عاجلها وآجلها، وأن بحث الإنسان عن راحة أخيه الإنسان، وسعيه في عونه على رفع إعبائه وحل مشاكله هو المسلك الأقصر المؤدي إلى بركات الدنيا والآخرة، وإن حقيقة العبادة المطلوبة الموصلة إلى رضا الله هي تلك التي يكون فيها الإنسان خيراً على الآخرين، ولا يصلهم من يده ولسانه إلاّ البر والإحسان والمعروف، فيعايشهم بحسن الأخلاق، وطيب المعاشرة، ويسعى في حوائجهم، ويؤدي إليهم ما افترض عليه لهم من التعامل النبيل، فيكون نصيب والديه منه البر ولا العقوق، وزوجته اللطف والوداد لا القسوة، وأولاده الحنان والرعاية لا التضييع، وأرحامه الصلة لا القطيعة، وجيرانه حسن الجوار لا الجفاء، وإخوانه المؤمنين المواصلة لا المتاركة، وعامة المسلمين الإهتمام لا التناسي، فإن هو أدى ما افترض عليه ازاءهم كان له في ذلك مأموله من رضا ربّه وكرمه وتأييده، وكان بذلك صادق الإيمان، سليم التوجهات، مرضي العبادة، مكلوءً باللطف والتسديد والحماية والكفاية، وإن هو خالف إلى غير ذلك فقد خسر ربّه، وعوائده وبركاته، وإن كان حِلْس المحراب، مشغولاً بالصلوات والأوراد، مادامت عبادة السلوك البنّاء النافع للناس هي المطلوب الأساس الذي دارت عليه لحمايته كل التكاليف والأحكام والفرائض والقيم والأصول التي جاءت بها الرسالة التي اختصر أمينها الكريم هدفه من كل جهده وجهاده بمسؤولية التتميم لمكارم الأخلاق، ورسم المنهج العملي الذي يكون فيه المسلمون عباد ربهم بالخطى الخدوم، والمساعي المعطاء، والجهود المحسنة، منطلقة من بصيرة نقية مفعمة بالمعارف الإلهية التي انطلقت من فم الرسالة الخاتمة مبادئ تجسد فيها الإنسانية حقيقة المطلوب لها من العروج الملائكي بمحاسن الشيم، وحميد الصفات، وسني الفعال.
وإن وقفة مع بعض المحاور الواردة في الدِّين الحنيف لتحديد الصيغة السلوكية المنشودة للبشرية تكفي لبيان ذلك المجد التنظيمي الفريد الذي تميّز به هذا المنهج الرباني العظيم، حين نتأمل في قوانين ومبادئ سامية مثل: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها) (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر/ 9)، (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران/ 92)، (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9)، (ما آمن بي مَن بات شبعان وجاره جائع)، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات/ 10)، (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة/ 83)، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل/ 90)، (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (النساء/ 36)، (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء/ 19)، (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة/ 228).
نجد أنّ هذه المبادئ الشامخة التي يقف على رأسها الشعار المستغرق في التكرار والذي يربط الإيمان بالعمل الصالح (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (البقرة/ 25)، تملأ ضمير المسلم بالحقيقة الكبرى القائلة:
إنّ الإسلام هو السلوك السوي مع الناس، وحسن التعاطي مع خلق الله، وطيب المعاشرة معهم، وإنّ الباب إلى رحمة الله في الدنيا ورضوانه يوم الحشر هو التدين الواقعي الذي تنسجم فيه العقيدة القلبية مع حركة الجوارح والأركان لنشاط الخدمة انسجام التلازم الحدي الذي يشكل وحدة لا انفكاك لها إلاّ إذا أريد للإيمان الحق أن يبقى اسماً على غير مسمى وإطاراً فارغاً بلا مضمون.
- لنقرأ معاً ونتأمّل:
(ما من شيء أفضل عند الله من سرور تدخله على المؤمن، أو تطرد عنه جوعاً، أو تكشف عنه كرباً).
(أحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله).
(أول مَن يدخل الجنة أهل المعروف).
(أقربكم غداً مني في الموقف أصدقكم للحديث، وآداكم للأمانة، وأوفاكم بالعهد، وأحسنكم خلقاً، وأقربكم من الناس).
(خصلتان ليس فوقهما خير منهما: الإيمان بالله، والنفع لعباد الله).
أليس باهراً في الدلالة على الإرتباط الوثيق بين رضا الله وعفوه وبين خدمة عباده، إن نجد الله سبحانه جعل عون الناس وغوثهم أولى السبل المؤدية إلى رحمته وستره وإحسانه، فكان في فقه الشرع ذلك الباب المعروف بباب الكفارات التي يكون فيها تحرير العبيد وإطعام المساكين أو كسوتهم أحمد الوسائل إلى العفو والغفران عند الممارسات المحددة التي يُعصى فيها الله، وتنتهك حرمة منهياته.
ونجد في البيانات القرآنية الرفيعة ما يجعل محور الإحجام عن عون الناس بعد محور الكفر بالله سببين إلى فتح باب جهنم أمام مَن هو من أصحاب الشمال (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الحاقة/ 30-34).
ونستوحي من الهدي القرآني الكريم الربط الوثيق بين حجب العون عن الناس وبين التسبيب للكفر بالدين والدنيونة، وحجب لطف الله بالهداية (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الماعون/ 1-3).
ونرى تضييع حق الله بعد تضييع حق عباده علتين مباشرتين لورود العذاب بإقرار المعذبين أنفسهم حين يجيبون على سؤال (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (المدثر/ 42-44).
ونرى إنّ الإيمان السليم هو ذلك الذي يستتبع سلوكاً يجسم صدق الإعتقاد بالله واليوم الآخر، ولا يكون إلاّ بأداء حق الله وحق عباده: (إِلا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج/ 22-25).