التعثر في السعادة
" قبل أن نصدق ما يقوله الناس عن شعورهم بالسعادة، علينا أن نحدد أولاً إن كانوا مخطئين بشأن مشاعرهم أم لا. إننا نحن البشر نخطئ في كل الأشياء – سعر فول الصويا، والعمر الافتراضي لحشرات السوس، وتاريخ الفلانيل- ولكن هل من الممكن أن نخطئ في خبراتنا الانفعالية؟ " .


دانيال جيلبرت
كان " جيلبرت " في طفولته يحب مطالعة الكتب التي تتضمن موضوع الخداع البصري بالصور والشرح، فأذهله مدى سهولة انخداع العينين والمخ.
وعندما أصبح عالم نفس، ظل مهتماً بالأخطاء التي يقع فيها الناس عادة، وتمارين " ملء الفراغ " التي تمارسها أمخاخنا لتقدم لنا صورة سريعة للواقع، فاكتشف أننا نرتكب أخطاء في التفكير بقدر ما تقع أعيننا في خطأ في الإدراك. ويتمثل هذا في أننا نقضي معظم أوقاتنا في فعل الأشياء التي نأمل أن تجعلنا سعداء في المستقبل رغم أن فهمنا للمستقبل، ولما سنشعر به فيه بعيد كل البعد عن الواقع.
ورغم أن البشر ظلوا يبحثون في موضوع البصيرة عبر آلاف السنوات، فإن " جيلبرت " يزعم أن كتابه التعثر في السعادة هو أول كتاب يجمع أفكاراً من علم النفس، وعلم الأعصاب، والفلسفة، واقتصاديات السلوك ليقدم إجابة. وهذه المنطقة من المعرفة منطقة معقدة جداً في علم النفس يحتل المؤلف فيها مكانة متميزة، ورغم ذلك يقدم أفكاره بأسلوب سهل ممتع القراءة، حيث يشبه أسلوبه في الكتابة أسلوب الراحل " بيل برايسون " ، فلا يكاد القارئ يقرأ صفحة من صفحات كتابه دون أن يضحك مرة أو مرتين على الأقل.

آلات للتوقع
يلاحظ " جيلبرت " أن معظم كتب علم النفس لا تخلوا من عبارة " البشر هم المخلوقات الوحيدة التي .. " ، وفي حالة كتابه يُكمل هذه الجملة فيقول إن البشر هم المخلوقات الوحيدة القادرة على التفكير بشأن المستقبل. وقد تبدو السناجب من المخلوقات التي تفكر في المستقبل بادخارها جوز البلوط للشتاء، ومع ذلك فلا يدفع تلك الحيوانات إلى هذا الفعل إلا ما تسجله أمخاخها من قِصر ساعات النهار، وليس الأمر لديها يشكل وعيّاً، بل غزيرة بيولوجية فقط. أما البشر، فلا يعون بالمستقبل فحسب، بل إنهم أشبه " بآلات للتوقع " يركزون على ما سيحدث بنفس درجة تركيزهم على ما يحدث الآن. كيف هذا؟


منذ ملايين السنين حدثت زيادة هائلة في حجم أمخاخ النوع الأول من البشر خلال فترة قصيرة نسبيّاً، ومع ذلك فلم تنمُ كل أجزاء ذلك المخ، حيث تركز معظم النمو في منطقة الفص الأمامي للمخ، وهو ما يوضح سبب الميل الكبير لجبهة الإنسان الأول واستقامتها لدينا حالياً، حيث كنا بحاجة لمساحة تحتوي كل تلك الملايين من خلايا المخ الجديدة.


وظل الاعتقاد السائد لفترة طويلة أن الفص الأمامي للمخ ليست له وظيفة محددة، ومع ذلك فقد أظهرت ملاحظة المرضى الذين تعرضت الفصوص الأمامية لأمخاخهم للتدمير أن لديهم مشاكل في التخطيط، بل – والغريب – ضعف في الإحساس بالقلق. وما العلاقة بين الأمرين؟ إن كلاًّ من التخطيط والإحساس بالقلق يرتبطان بالمستقبل، وتلف الفص الأمامي للمخ يجعل المصاب لا يفكر إلا في الحاضر؛ لذلك لا يهتم بوضع الخطط المستقبلية مما يحرره من القلق بشأنها.


ولذلك؛ فقد أدى النمو الكبير في الفص الأمامي للمخ البشري إلى تمتع الإنسان بميزة هائلة للبقاء على قيد الحياة، وهي قدرته على وضع تصورات مختلفة للمستقبل، والاختبار من بينها حتى يسيطر على بيئته. إننا نستطيع التنبؤ بما سيشعرنا بالسعادة في المستقبل.