إنَّ الْهمَّ المشترك بين كلِّ البشر باختلاف مِللهم ونِحَلهم هو
إصلاح الذَّات، وهو المِحْور الأساس الَّذي تدعو إليه كلُّ الرسالات السَّماوية،
وهو الثَّمرة المنشودة لرحلةٍ تَعْرج فيها الرُّوح في مَدارج السالكين،
وتتَفاوت حلاوة الثَّمرة بِتَباين الجهد المبذول، والشَّفافيةِ والمُصارحة مع الذَّات.
إنَّ طُرق رحلة إصلاح النَّفس تبدو متعدِّدة ومتشعِّبة،
لكنها في الحقيقة تَتلاقى في طريقين: طريق سَهْل، نهايته الفشَل،
وطريق آخَر صعب؛ ولكن نهايته سُموُّ الرُّوح وارتقاؤها،
وتُبيِّن السُّطور التاليةُ هذين الطَّريقين،
وأنَّ لكلٍّ منهما فرضيَّةً ومُوازنةً مختلفة،
على أساسها تتشكَّل نتيجةُ كلٍّ منهما:
1- الطَّريق السهل في رحلةِ إصلاح الذَّات، ونهايته الفشَل،
إذ هو يفترض أن الخطأ يأتي دائمًا من خارج ذَواتنا ، والكفَّة الرَّاجحة في مُوازنة
هذا الطَّريق المسدود هي إدانة الآخَر ولَوْمه، وترتَكِز هذه الموازنة المُضْطربة على تَنْزيه الذَّات، والجَزْم بكمالها، وإسقاط الخطأ برمته على الآخر أمَّا النتيجة لهذا المَنْظور غير المُتَّزِن، فهي شَلل كامل، وتعطيل وإضاعةٌ لطاقة الإصلاح؛ بِتَوجيهها في المسار الخاطئ،
فالناس بفطرتهم لا يحبون معاملة من يعتقد صوابه وسلامته من الخطأ في كل الأحوال
ومن لا يلوم نفسه أبدا وثمرة هذا المنظور شائكة ومرة، ولا تنهي الخلاف، فمن الصعب اقناع الناس بأخطائهم، ومحاولة تغييرها كما يشهد بهذا أهل الخبرة والاختصاص.
ولْنَضرب أمثلةً من القرآن الكريم وحياتنا اليوميَّة لهذه المُوازَنة،
يقول الله تعالى في سِياق بيان العُذْر الَّذي يَحتجُّ به الشَّيطان في إغواء بني آدم:
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16]،
وكما تَبْدو هذه المُوازَنة المختلةُ في تبرير البعض لتصرُّفاتِهم:
"لا تَلُمني في قسوتي وحدتي على فلان؛ انظُرْ إلى تصرُّفاته المثيرة للغضب،
إنَّه يستحقُّ ما يَجْري له"، ويُلحَق بهذه الموازنة المضطربة تبرير الغضب
والمواقف المتعجلة بلَوْم الظُّروف والأحوال، وتَغيُّرات الطَّقس،
ولا يَخْفى على المُتأمِّل الحصيفِ التَّغييبُ المقصود لِلَوم الذَّات المؤدي
الى التعَجُّل في الفهم، والحكم على الأمر بناءً على تصَوُّر ناقصٍ ومقدمات خاطئة،
ويُبيِّن الرَّسمُ الإيضاحيُّ هذه الموازنة:
2 - أمَّا الطريق الأمثل لإصلاح الذَّات، فهو صعب وشاق، ولكن صعوبته ومشقته
سرعان ما تهون وتنسى إذا ما قورنت بحلاوة ثمرته، ويَرْتكز هذا النهج القويم
على ركيزةٍ مُختلفة، هي نَقْد الذات، والإقرار باستحالة كمالها، والاعتقاد
بمحدودية علمها، وعدم عصمتها، وقابلِيَّتها للوقوع في الخطأ.
إن الكفَّة الراجحة في موازنة هذا الدَّرب الإصلاحيِّ هي لَوْم الذَّات؛
لأنَّ هذا الطريق السوي يَفترض أنَّ مصدر الخطر يحتمل أن يكون – كلا أو جزءا -
من داخل ذواتنا، ومن نِقاط ضعفنا الكامنة؛ والَّتي لا يَخْلو منها عامَّةُ البشَر،
ومَن جرَّب هذه الموازنةَ الأكثر واقعيَّة، يُخْبِرنا بأنَّ نتيجتها تحريرٌ كامل لطاقة إصلاح الذَّات
وتوجيهها في المَسار الصحيح، ولطالما أعجب الناس - حكماءا وبسطاءا -
بمن لا يبرىء نفسه، ومن يبادر الآخر بالتلطف والاعتذار، ويعظم إعجابهم
إذا صدر الاعتذار من أهل الصلاح والفضل وذوي الهيئات الذين لا يتصور صدور الخطأ منهم.
إن لوم الذات بغية إصلاحها في سويعات خلوة وتأمل ومصارحة لهو أيسر
وأنفع من إضاعة الوقت والجهد في لوم الآخرين ومحاولة تبصيرهم بأخطائهم،
فليست كل المواقف والمعاملات تستدعي العدل المطلق، وما يضير العاقل
تغليبه للوم نفسه وتقديمه على لوم الآخر، ففي هذا المسلك الحكيم نوع
من التغاضي والحلم المحمود، وتجنب لمزالق الخلاف والشقاق، والحرص على الوقت،
ويُبيِّن الرَّسمُ الإيضاحيُّ هذه الموازنة:
ويَضْرب الله - عزَّ وجلَّ - في كتابه العزيز مثلاً على هذه الموازنة
على لسان آدم - عليه السَّلام - وزوجِه بعد أكْلِهما مِن الشجرة المُحرَّمة:
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]،
ويتَجلَّى مثَالُ آخر في دعاء سيِّد الاستغفار في الحديث الشَّريف:
((أعوذ بك مِن شرِّ ما صنَعْت، ابوء لك بنِعمَتِك عليَّ، وأبوء بِذَنبِي، فاغفر لي))،
أمَّا معاملاتنا اليوميَّة، فهي – ولله الحمد والمنة - ملأى بأمثلةٍ مُشْرِقة لفهم البعض
لهذه الموازنة القويمة، ومِن هذا قول أحدهم وهو يَلُوم نفسه: "لو كنتُ أكثر رِقَّة
ولينًا وحلما وكرما في تعاملي مع جاري، لَما تصرَّف بِهذه الطَّريقة".
وتتجلَّى في الموازنتين السابقتين جوانب مهمة من سيكولوجيَّةُ النقد الذاتي،
التي تُشير إلى وجودِ تَشابُكٍ بين العوامل الداخليَّة المسبِّبة للأحداث،
والعوامل من خارج الذَّات، وتَلْفت النَّظر إلى أنَّ طاقة إصلاح الذات - كغَيْرِها من الطَّاقات -
محدودةٌ، ولا تُستغلُّ الاستغلال الأمثَل،
إلاَّ إذا وُجِّهَت نحو العوامل الداخليَّة بِمُواجهة النَّفس،
والاعتراف بالخطأ ولو كان قليلا، وتغليب لوم الذات، فهذا المسلك أفضل
نتيجة من لومنا لغيرنا، ولا يشك عاقل بأن تأملنا وجهدنا في صلاح ذواتنا –
مع ما فيه من المشقة – لهو أيسر من لوم غيرنا واقناعهم بأخطائهم وزلاتهم،
وفي قصَّة آدم وحوَّاء مع الشجرة المُحرَّمة، وقصَّة إبليس وامتناعه من تنفيذ الأمر
الإلهيِّ بالسُّجود لآدمَ - مِثالان واضحانِ على طريقين؛ أحدهما يؤدِّي للفشل
والشحناء والفرقة، والآخر يَنْتهي إلى الإصلاح و رُقيِّ الرُّوح رقيا يَجْعلها جديرةً
ومؤهَّلة لريادة الأرض، والاستخلاف فيها، وفق وَحْي الله وشَرعِه..
المفضلات