حينما دخل الأب على ابنه في غرفته وجده منكباً على دروسه، ولكنه وجده حزينا.. قال الأب: ما بك يا بني؟
قال: كما ترى يا أبت.. سهر بالليل وتعب بالنهار..أقضي كل دقيقة في المذاكرة والمراجعة.

قال الأب: وهل هذا مدعاة للحزن والضيق يا بني..؟

قال الابن: لا أبداً يا أبت، ولكن ما يحزنني هو أنني رغم ما ترى أخشى ألا أحصل على الدرجات العليا التي يحصل عليها بعض زملائي، والذين يقضون جل أوقاتهم في اللعب، والسهر، والغياب عن الدراسة، وفي النهاية هم أصحاب الرتب العليا.. بسبب ما تعرف..!!

دخل الأب في حالة من الوجوم والحزن ، وراح يردد قول شاعر قديم:

لاَ تنْظرَنّ إلى علمٍ ولا أدبٍ

إنّ الحظوظَ قريناتُ الحماقاتِ

ولكنه استدرك قائلاً: يا بني دع عنك هؤلاء، فإذا كانوا يستطيعون الحصول على الدرجات بطرق غير مشروعة فهؤلاء لا يهمهم العلم، ولا تهمهم المعرفة، بينما أنت يا بني تزود نفسك بطاقة العلم والاستنارة، والثقافة العليا.. أنت يا بني تتعلم للعلم والمعرفة ، وحينما تتخرج ستكون فوق هؤلاء جميعاً إدراكاً وإلماماً وتجربة علمية ، وسيكون الفارق بينكم حينئذ عظيماً وكبيراً..

ضحك الابن وقال: هذا صحيح ولكن ما الفائدة..؟ هؤلاء قد يستلمون أعمالاً جيدة ، وسوف يترقون إلى المناصب بشكل مطرد.. أما أنا فسأظل طويلاً أقف عند أبواب المؤسسات والدوائر ، أبحث عن عمل قد يكون مناسبا وقد لا يكون له علاقة بكل ما قرأته وتعلمته..

قال الأب: يا بني الحياة كفاح ، وصراع ، ومعرفة ، وكل يوم يمر يكسب الإنسان فيه شيئاً . ولا بد للمجتهد أن يأخذ نصيبه يوماً..

قال الابن: يا أبت هذا قد يكون صحيحا لو أن ساحة الحياة مفتوحة كميدان سباق.. لو أن المسألة مسألة جدارة ومقدرة واستحقاق ، ولكن الأمور كما ترى قد تعتمد على أشياء لا علاقة لها بالمعرفة ، ولا المقدرة، ولا الذكاء، ولا الفطنة أو الجدارة.. بينما أولئك ربما يترقون ويثرون ويسكنون أحسن المساكن ويركبون أفضل المراكب ، ونحن نتحدث بحماسة عن العلم والمعرفة..

قال الأب: يا بني ولكنك ستعمل حين تعمل مرتاح الضمير ، طيب النفس ، مستشعراً طعم الحياة ، وتعبها..

قال الابن: يا أبت هؤلاء قد يتزوجون وينجبون ويكونون قادرين على تربية أولادهم وترفيههم، سيدخلونهم أحسن المدارس، ويعلمونهم أفضل التعليم ، وييسرون لهم كل سبل الراحة ، بل سوف يذهبون بهم إلى أقاصي الأرض للتروض والارتياح..

أحس الأب عند ذلك بألم وضعف وحسرة.. واستطرد الابن: بينما أنا لن أكون قادراً على السكن إلا بالإيجار ، وسوف يكون الزواج أمراً صعباً، وستظل الحياة في ضوء ذلك معقدة ، وسوف يكون الإنجاب نوعاً من أنواع المخاطرة ، بل ربما الغباء..!! وستظل حسرة عدم الإنجاب أسهل من حسرة الإنجاب ، والتخليف في ظل ظروف اجتماعية ، وحياتية صعبة..

لم يجد الأب حيال ذلك شيئاً يقوله إلا أنه حاول أن يفتح آفاق الأمل أمام ابنه ، وقال: يا بني لا تيأس.. فكثير مثلك ركبتهم الظنون والأوهام ، ولكن أمورهم تغيرت ، وأحوالهم تحسنت ، ووصلوا إلى ما لم يكونوا يحلمون بالوصول إليه..

قال الابن: يا أبي أنا أتحدث بمعطيات الواقع لا بآمال الغيب والقدر.. فالغيب أمره بيد الله لا شك في ذلك.. ولكن الواقع لا يمكن تجاهله ، ومحاولة الهروب منه بآمال هي إلى الخيال والوهم أقرب منها إلى الحقيقة والواقع هي نوع من أنواع المغامرة والمكابرة..

يا أبت أنا لست متحسراً على ألا أتعلم وإنما حسرتي على ان العلم لم يعد سلاحاً كافياً للمحاربة به في صراع الحياة فالتفوق والنجابة والإخلاص والجد أمور لم تعد وحدها كفيلة بأن تجعلك تعيش بكرامة وشرف..

قال الأب: كلا يا بني هذا تشاؤم ذميم .. عليك أن تخلع نظارة التشاؤم عن عينيك.. ففي كل اشراقة صبح أمل جديد ، وفأل جديد، وحياة جديدة.. ولولا ذلك لماتت الحياة ، ولمات الأحياء.. انهض من مجثم الخوف ، وحلق في سماء التفاؤل.. ولن تخونك جناحاك في أن تصلا بك إلى القمة، ولا تنس يا بني أبداً أن القمم تحتاج إلى قلب طموح...

نهض الابن وقبّل رأس أبيه...
اتمنى يعجبكم الموضوع...