يحكى أن الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، رضي الله عنه، كان يجلس في المسجد بين تلامذته في بغداد، يحدثهم عن أوقات الصّلاة، فدخل المسجد شيخ كبير السن، له لحية كثيفة طويلة، ويرتدي على رأسه عمامة كبيرة، فجلس بين التلاميذ.
وكان الإمام يمدّ قدميه، لتخفيف آلام كان يشعر بها، ولم يكن هناك من حرج بين تلامذته حين يمد قدميه، فقد كان قد استأذن تلامذته من قبل بمدّ قدميه أمامهم لتخفيف الألم عنهما.
فحين جلس الشيخ الكبير، شعرَ الإمام بأنه يتوجّب عليه، واحتراما لهذا الشيخ، أن يطوي قدميه ولا يمدّهما، وكان قد وَصَلَ في درسه إلى وقت صلاة الصبح، فقال ‘’وينتهي يا أبنائي وقت صلاة الصبح، حين طلوع الشمس، فإذا صلّى أحدكم الصبح بعد طلوع الشمس، فإن هذه الصلاة هي قضاء، وليست لوقتها’’.
وكان التلامذة يكتبون ما يقوله الإمام والشيخ الكبير ‘’الضيف’’ ينظر إليهم. ثم سأل الشيخ الإمام أبو حنيفة هذا السؤال ‘’يا إمام، وإذا لم تطلع الشمس، فما حكم الصلاة؟’’.
فضحك الحضور جميعهم من هذا السؤال، إلا الضيف والإمام الذي قال ‘’آن لأبي حنيفة أن يمدّ قدميه’’.

العبرة المعاصرة
في هذه الحكاية الطريفة، تتبدّى جملة من دروس أهل العلم.
فأبو حنيفة لم يمنعه مرضه من الإحجام عن وظيفته في تقديم العلم وبذله بأحسن ما يكون، على خلاف البعض الذين يبحثون عن أدنى حجّة للتكاسل والهرب من تحمّل المسؤولية، مثلما هو حال بعض المدرّسين والمعلمين في المدارس الحكومية وغير الحكومية الذين يتذرّعون بأتفه الأسباب للتملّص من أداء أشرف مهنة وأعظمها أثراً.
وحتى عندما يكون ثمة حرج مرضي، فإنّ الأمور يمكن أن تجري في مسارها الطبيعي، وبما لا يؤذي الإنسان نفسه. فأبو حنيفة استأذن من طلاّبه أن يمدّ قدميه تخفيفاً مما كان يشعر به من آلام، وكان ذلك أهون عليه - برغم ما فيه من حرج نفسي وتجاوز لبعض آداب الجلوس بين الآخرين - من ترْك التعليم والبحث بين الطلاّب.
ولكن ماذا فعل أبو حنيفة عندما دخل عليه منْ كان لا يعرف مقدار الحرج الذي حذا به إلى مدّ يديه، ومنْ يبدو عليه علامات العلم وأهله؟
الدرس الذي قدّمه أبو حنيفة هو أن نتجرّع الألم، ونعطي هذا الشخص ما يستحق من احترام وتبجيل، بما هو رمزٌ للعلم وعلامة على المعرفة.
ولكن، بمجرد أنْ انكشف لأبي حنيفة أن مظاهر هذا الرّجل كانت خادعةً. وتغطّي على حقيقة صاحبها وكونه جاهلاً لا يفقه شيئاً غير التلبّس بالمظاهر الكاذبة؛ عندها أسقط أبو حنيفة حقّ الاحترام الشكلي، ومدّ قدميه.
أما البعض في زماننا هذا، فإنه يفعــل العكس تماماً؛ يُعلي من شــأن المتلبّسيــن بمظاهــر العلم والعلمــاء، حتى لو انكشــف جهلهم، وفي المقابل يمدّ قدميه في وجه منْ ثبُت علمه وتفوّق عقله.