*

منذ نحو ثلاثة عقود خلت بات واضحاً للجميع أن العملاق الأصفر يعود؛ فمنذ أن أطلق الزعيم الصيني دينج شياوبنج إصلاحاته الاقتصادية عام 1978، والبلاد تُحقق معدلات نمو سنوية تصل إلى الـ10%، مُضاعفة ناتجها القومي الإجمالي كل سبع سنوات. وإذا كان صحيحاً أن الجميع يُحِبّون الرابح، فينبغي أن لا يُفاجئ أحدٌ إذا بدأ عدد كبير من الأصدقاء والمعجبين يصطفون على باب الصين الناهِضة، سيما وقد أخذ الحديث عن قوتها الناعمة، فضلاً عن ديناميتها الاقتصادية المدهشة، يتزايد ويتّسع يوماً بعد يوم بالتوازي مع إجادتها للعبة العلاقات العامة الجيدة.

ولِمَ لا؟ ففيما تتنامى مشاعر العداء لواشنطن في أماكن مختلفة من العالم، خصوصاً بعد تدخلها العسكري في العراق، كان الآخرون يُمسِكون بزمام المبادرة ويتحركون بخِفّة وبوتيرة أسرع. وبالطبع كانت بكين في مقدمة الجميع. فبفضل بُعْد النظر تحوّلت الصين، مستندةً إلى تعداد سكاني هائل ومعدلات نمو اقتصادي بالغ السرعة، إلى عملاق يلوح في أُفق آسيا، ومنذ بداية هذا القرن ازدادت مكانة الصين وبات العالم ينتظر صعودها كقوة عالمية كبرى منافسة للولايات المتحدة على النفوذ الدولي.

وعلى الرغم من أن بعض المشتغلين في الحقل الأكاديمي يُقلل من قيمة الصين الصاعدة ومن فعالية تهديدها لهيمنة أميركا الكونية، فإن ثمة اتجاهاً قوياً، بالمقابل، أخذ يُجادل بأن هذا هو ما يحصل بالفعل. فعلى سبيل المثال، يؤكد مدير الأبحاث والتحليل في مجموعة يوروآسيا هاري هاردينج، أن الصين تُشكِّل تحدياً فردياً وجدياً للولايات المتحدة لأنها تتحول إلى “قوة متعددة الأبعاد” بخلاف منافسي أميركا الآخرين.

فإذا كانت روسيا قد مثلت خلال الحرب الباردة تحدياً، لا تهديداً، للولايات المتحدة ولكنها فعلت ذلك بطريقة واحدة فقط: كانت لديها قدرات عسكرية قوية، وكان اقتصادها ضعيفاً جداً. وإذا كانت اليابان قد أصبحت منافساً اقتصادياً جدياً لأميركا في ثمانينيات القرن الماضي، لكنها لم تكن قوة عسكرية منافسة؛ في المقابل نجد أن قوة الصين الاقتصادية والعسكرية تنموان بسرعة مُلفتة، فضلاً عن أنها أخذت تستخدم “قوتها الناعمة” بشكل متزايد لمصلحة أهدافها الجيوستراتيجية الخاصة.

منذ منتصف العقد الماضي، وسّعت الصين علاقاتها الثنائية وعمّقت هذه العلاقات، وانضمت إلى اتفاقيات تجارية وأمنية عديدة، وعمّقت مشاركتها في منظمات هامة متعددة الأطراف، وساعدت في علاج قضايا الأمن العالمي. وأصبحت عملية صنع قرار السياسة الخارجية تتسم بقدر أقل من الشخصانية وقدر أكبر من المؤسساتية، وأصبح الدبلوماسيون الصينيون أكثر تطوراً في صياغتهم لأهداف بلادهم. وعلى نطاق واسع، أصبحت مؤسسة السياسة الخارجية الصينية ترى بلادها قوة كبرى متنامية لها مصالح ومسؤوليات متنوعة.

لقد بات واضحاً لبكين أنه ينبغي عليها إعداد استراتيجية صينية كبرى جديدة؛ إستراتيجية تُتيح لها مواصلة نموها الاقتصادي وتحديث تكنولوجيتها وتعزيز جيشها من دون استفزاز دول أخرى ودفعها لمنافسة قد تكون مُكلِفة. وفي اتجاه موازٍ، وعطفاً على ما سبق، باتت الصين اليوم أكثر وعياً للحاجة إلى نشر ثقافتها في الخارج، لأنها تعلم منافع القوة الناعمة، وكذلك لأنها تُؤمن بأن التقدير الصادق للاستقامة الكونفوشيوسية سيُخفف من الشكوك حول كيفية ممارستها لنفوذها في المستقبل. ولهذا تبذل الصين جهوداً حثيثة لتعزيز لغتها وثقافتها من خلال الإشراف على إنشاء برامج لتعليم اللغة الصينية في جامعات رائدة تمتد من كينيا إلى أستراليا، ناهيك عن المعاهد التي أسستها داخل الجامعات الكبرى في شرق آسيا.

وفي الوقت ذاته، برعت دبلوماسية الحرير الصينية في تطبيق استراتيجية تعزيز مفهوم “التنمية السلمية” من خلال تنظيم المعارض الفنية في العديد من بلدان العالم، بالإضافة إلى استقبال عدد أكبر من الطلبة الأجانب في الجامعات الصينية والذين ازداد عددهم عشرة أضعاف ما كان عليه في العقد الماضي، وبعد أن كان عددهم ثمانية آلاف طالب فقط قبل عقدين من الزمن، أصبح اليوم يناهز المائة وعشرين ألفاً.

وفي الأثناء، فإن شباب الصين ودبلوماسييها المتعلمين في الغرب والمطلعين على دخائل الأعمال التجارية يُظهرون اليوم قدراً من التفوق في المعرفة المحلية كنظرائهم الغربيين، وذلك نتيجة لبرامج وزارة الخارجية التي تقوم بإرسال أعداد متزايدة من الدبلوماسيين الصينيين للدراسة في الخارج.

الأرقام الأولية مثيرة للإعجاب فعلاً. فما تُنتِجه الصين من مهندسين يفوق بكثير ما تنتجه الولايات المتحدة القوة العلمية العالمية الأولى (خرَّجت الصين في عام 2005 وحده أكثر من 600 ألف مهندس)، وبحلول العام 2010 ستُخرِّج الجامعات الصينية من حملة الدكتوراه أكثر من نظيرتها الأميركية.

يبدو أن الصين تتمتع بثمار حملتها المثيرة للإعجاب الهادفة إلى الترويج لصورة جديدة لها. ولهذا تبدو “المملكة الوسطى” اليوم أكثر ثقة بنفسها من أي وقت آخر في تاريخها المعاصر. غير أن بشير النجاح الحقيقي بالنسبة لها يكمُن في المستقبل. وكلّما ازدادت قدرتها على تجاوز السياسات والقيم الداخلية التي تحدّ من قوتها الناعمة، كخشية الحزب الشيوعي من السماح بقدر أكبر مما ينبغي من الحرية الفكرية وسعيه المثابِر لمقاومة التأثيرات الخارجية، فضلاً عن تفشي الفساد الحكومي في قطاعات مختلفة من مؤسساتها؛ ازدادت قدرتها على اكتساب المزيد من المصادر المحتملة لقوة الجذب الناعمة، وبالتالي تعاظُم هذه القوة باستمرار.

غير أن الأهم من هذا كله، وما يُلقى على كاهل الصين اليوم، وهي القوة الصاعدة إلى مرتبتها المُرتقبة، هو أن تُبرهِن أنها لن تتبوأ الصفوف الأولى بين أولئك الذين يُهيمنون على العالم ويفرضون إرادتهم على الآخرين، فقط كي تتحول إلى قوة عظمى مهيمنة “أُخرى”!

*باحث وكاتب يمني.
محمد سيف