الحب شرط أساسي من شروط تفعيل الذات في المحيط... كيف؟

الحب يحملنا على تقبل محيطنا البيئي والاجتماعي أولاً، ويحثّنا على بذل الجهد للرقي، ليس بمحيطنا الثقافي والتربوي والاجتماعي فحسب، بل يعطينا القدرة على تطويع الطبيعة أيضاً... لذلك، فإن الحب مطلوب لذاته، أو لما يبعثه في النفس من شعور بالرضى، ومطلوب لأغراض أخرى، هي زيادة فعالية الإنسان في إعمار الحياة والكون، وفي إضفاء المعنى على حياتنا بأسرها، ذلك أن العمل المرتكز على الحب هو فعل أرقى بطبيعته من مثيله المرتكز على الواجب، وإن كان العملان متساويين من حيث الإنتاجية.

الحـب حاجـة:

لدى الإنسان حاجة فطرية إلى الحب تظهر باكراً جدّاً مع خروجه إلى الحياة، بها يغتذى، وعليها ينمو، وبفضلها يكتمل نموّه الجسدي والنفسي، فليست حاجة الطفل إلى حب والديه محصورة في حاجته إلى معونتهم في قضاء حوائجه الحيوية من طعام وتغوط و... ، بل إن الطفل بحاجة إلى الحب بذاته، الذي يعطيه صفته الإنسانية... وحاجته تلك تشبعها نظرات الأهل، لمساتهم، مناغاتهم عندما يكون رضيعاً، وسلوك الحماية والرعاية في مراحل لاحقة...
هذه الحاجة إلى الحب تتوسع باضطراد مع زيادة حاجات الطفل، وازدياد نضوجه، وتأخذ أشكالاً أكثر تعقيداً، فيصير الأخوة والأقارب ورفاق المدرسة والمعلّمون مواضيع لحب الطفل، وهكذا... إلى أن تتجرد عن الأشخاص لتظهر على شكل تعلق بالمطلق، فحب الله هو أرقى مستويات الحب، من تحسّسه حاضراً بين جنباته دافقاً قوياً، يكون قد وصل إلى أرقى مستويات النضج الإنساني، وبذلك يملك الإنسان السيطرة على أناه موضوع الحب الأول للرقي بها إلى أعلى مستويات النضج والكمال...

خلـل تربـوي:

إذا كان الحب حاجة طبيعية لدى الإنسان، فذلك دليل على إمكانية إشباعه لتلك الحاجة وعلى امتلاكه لتلك الطاقة على الحب، التي يعكس وجودها سلامة نفسية لا بدّ منها لمواجهة الحياة، في حين يعكس عدم مقدرة أي فرد على التعاطف والمحبة خللا تربوياً، لا بدّ من معالجته قبل أن يترك بصماته على الوضع النفسي والاجتماعي والروحي للفرد، وعلى مستوى الإنتاجية لديه، وعلى القيمة المعنوية لأفعاله.
أما عن مصدر الخلل في تربية وبناء شخصية الإنسان العاجز عن الحب، فهو أساساً افتقاره الشخصي للحب خلال مراحل الطفولة، أو تدليل فائق الحد وغير مدروس يحصر اهتمام الفرد بنفسه، أو ثقافة تربوية تركز على العقلانية كقيمة في مقابل العاطفة التي تجردها من أي دور. هذه الثقافة التي يمكن أن تكون سائدة في المجتمع ككل أو في نطاق الأسرة، تمثل خلفية لطريقة تعامل الأهل مع الطفل، حيث لا تقوم عواطفهم بأيِّ دور إيجابي بنّاء في مسيرة حياته، وهذا لا ينفي طبعاً دور التجارب اللاحقة في تشكيل هذه الأزمة.

عـلاج ذاتـي:

إذا كان الخلل تربوياً، فهذا لا يعني أن العلاج لا بدّ أن يعود بالإنسان إلى طفولته لتقويم الاعوجاج، بل يكفي لتحقيق ذلك، نظرة فاحصة وصادقة إلى بنية الشخصية وموطن الخلل فيها، فهل مصدره أنانية مفرطة وتمحور حول الذات؟ أم مصدره افتقار إلى الحب؟ أو تجارب مرّت مع الناس والحياة جردته من الثقة بالنفس والعالم المحيط؟ أم مصدره استغراق كامل في النظرة المادية إلى الحياة؟ أو عقلانية صارمة في التعامل معها؟
ومع وجود الرغبة في تخطي المشكلة، يسهل ذلك، إذا ما تمت مواجهة الذات ككل، بكل الظروف المحيطة بتكونها، لمعالجة مشاكلها عموماً، وما يختص بجفاف القلب خصوصاً، مع العمل على إدخال بعض التعديلات الممكنة على الظروف، كتغيير نمط العمل الجامد، أو مكان السكن، أو نوع الدراسة وما إلى ذلك، مع استحضار الله وتمتين العلاقة به، ليس من خلال تأدية العبادات كواجب، بل من خلال تأديتها كأداة تواصل مع الخالق، الأمر الذي لا بدّ أن يترك آثاراً طيّبة على النفس، تسهِّل مد جسور الحب والودّ مع الناس والعالم، تلك الجسور التي تعتمد في أساسها على إجراءات عملية تعزز التواصل، يصعب حصرها في هذا السياق، منها طلاقة الوجه، السعي في حاجات الآخرين، إحسان الظن بالآخر... احترام خصوصياته... وما إلى ذلك من الإجراءات التي تحفل بها أدبيات الإسلام وأخلاقياته.
عند ذلك، لا بدّ أن يصبح العالم أبهى صورة في نظرنا، بفضل الروح التي سوف نتمكن من إضفائها على الأشخاص وحتى على الأشياء.