بــــصــــــل*




كان الوالد يتابع الأخبار على شاشة تلفزيون السويد.. لم يفهم كلمة واحدة. نهض عن أريكته وهاتف شقيقه.
- جهّز نفسك، سوف تأخذني في الغد إلى "لاهاي".
لم يتمكن الشقيق من قول شيء.. وأغلق الأب سمّاعة الهاتف.
انطلقا من "مالمو" في الخامسة.. جلس الأب في سيارة شقيقه "الفولفو" وصمت.
مرّا عبر "الدنمرك" قبل أن يجف العشب المحصود.
دار الشقيق في المكان ببطاقة السيارة كما لو أنه يدير أرقام اليانصيب.
لم يكن معروفا عمّا تحدّثا!
لم يأت أحد على ذكر "لاهاي".
قال الأب: للألمان عقل راجح.."، وكان يفتش بنظراته عن أي جبل.
تطلع اليه الشقيق باستغراب وحسب!
قال الأب: الهولنديون هم أشقّاء الألمان أثناء دخولهم إلى هولندا.
لم يتطلع إليه الشقيق باستغراب.. فقد كان متعبا.
"بالعقل.."، أضاف الوالد بعد برهة قصيرة.
تطلع اليه الشقيق وابتسم!
وقبل الدخول إلى "لاهاي"، طلب الأب من الشقيق أن يجد أي محل للبيع.
- ما حاجتك لمحل البيع؟
"لكي نشتري البصل"، قال الأب.
وجدا بقالة.. لم يكن البائع يعرف اللغة السويدية أو البوسنية، ولا هما يعرفان اللغة الإنجليزية أو الهولندية.. إلى أن أمسك الوالد برأس من البصل ومدّه أمام أنفه. ابتسم البائع وأشار إلى الميزان متسائلا: إذن.. كم تريد؟
قال الأب: سلّة كاملة.
أومأ البائع برأسه متسائلا.. وذهل الشقيق.
- سلّة كاملة؟
لم يعط الوالد اهتماما لأي منهما. بحث بعينيه عن السلّة وارتسمت الابتسامة على محيّاه عندما رمق سلّة مشبكة حمراء مملوءة بالبرتقال.. أشار إليها بيده ثم وسّع ما بين يديه مشيرا إلى ما هو أكبر.
فهم البائع.. ذهب إلى مكان ما وأحضر سلّة من البصل.. وأومأ الوالد برأسه موافقا.
تطلع إليه البائع لبرهة وذهب ثانية إلى المكان نفسه وأحضر سلّة أخرى من البصل.
كان الوالد في حالة التباس.. فكر، وفي النهاية أشار بثلاث أصابع.. إصبعين من يد وواحدة من اليد الأخرى.
وأحضر البائع سلّة أخرى.
"هيا بنا نذهب إلى السجن.."، قال الأب عندما خرجا من محل البيع.
كان الشقيق مرغما على التطلع إليه.. وبدلا من ظهور الدهشة في عينيه لاحت منهما ذريرات التعب الحمراء.
والمثير للغرابة أنهما اهتديا إلى السجن في "شفينجن" بسهولة.
وكان الليل قد حلّ، والضوء ينير السجن وما حوله رخيّاً كأنه يداعب السماء!
تطلع الرجل باللباس الرسمي عند البوابة بلا اكتراث، بينما كانا يُخرجا سلال البصل من مؤخرة السيارة.. ويبدو أن ذلك الرجل قد عاين كل شيء.
قال الأب لشقيقه: أعطني قلما وورقة.
أحضر الشقيق من السيارة قلما ودفتر ملاحظات وقدمهما للأب.
انتزع الأب ورقة من الدفتر ومدّها فوق سطح السيارة وكتب لفترة طويلة وبخط رديء.
تقدما من الحارس –رابط الجأش- ووضعا إلى جواره سلة فوق أخرى من البصل، وألصق الأب الورقة عليها وهو يبتسم ومضى نحو السيارة.
وسار الشقيق وراءه.
وعندما ابتعدا عن مرأى العين تقدم الحارس وأخذ الورقة عن سطح الكومة.
كان مكتوبا على الورقة:
"إلى (ميلومير ستاكيتش)، مدير معتقل (أومارسكا)***
شاهدت الليلة الماضية على تلفزيون السويد أنهم قد ألقوا القبض عليك.
أعطيتني في إحدى المرّات وأنا في المعتقل رأسا من البصل وقلت لك إنني سأكون مدينا لك به!
وها أنا أسدد ديني!
آدم كلوتشانين"!.

*** أحد معتقلات الصرب.
** روائي وقاص وشاعر وأستاذ جامعي من البوسنة، له مؤلفات أدبية حظيت بشهرة عالمية، ونال العديد من الجوائز وتُرجمت مؤلفاته إلى غير لغة.
* القصة مستوحاة من أجواء الحرب التي جرت في البوسنة 1992-1995، حيث أقامت الميليشيات الصربية معسكرات اعتقال وضعت فيها المسلمين في حالة بائسة يرثى لها وفي ظروف إنسانية غير طبيعية. وقد تكون القصة حقيقية، لأن والد المؤلف سُجن في تلك المعتقلات وعاش في السويد مهاجرا إلى أن رحل العام الجاري.




زلهاد كلوتشانين**

الترجمة من البوسنية: إسماعيل أبو البندورة