سلامة الذوق وأثره في الأفراد والأمة
سلامة الذوق وأثره في الأفراد والأمة
الذوقُ كلمةٌ جميلة مُوْحِيَةٌ تَحْمِلُ في طياتها معاني اللطفِ، وحُسْنِ المعشر، وكمالِ التهذيبِ، وحسنِ التصرفِ، وتجنبِ ما يمنع من الإحراج وجرح الإحساسات بلفظ، أو إشارة أو نحو ذلك.
فهذه المعاني وما جرى مجراها تُفَسِّرُ لنا كلمة الذوقِ، وإن لم تفسرها المعاجمُ بهذا التفسير الملائم لما تعارف عليه الناس، وجرى بينهم مجرى العرف؛ فتراهم إذا أرادوا الثناء على شخص بما يحمله من المعاني السابقة قالوا: فلان عنده ذوق، أو هو صاحب ذوق.
وإذا أرادوا ذمَّه قالوا: فلان قليل الذوق، أو ليس عنده ذوق، وهكذا...
فالذوق بهذا الاعتبار داخلٌ في المعنويات أكثر من دخوله في الحسِّيات كذوق الطعام والشراب.
وموطن الذوق في المعنويات يدور حول العقل، والروح، والقلب.
وموطنه في عالم الحسيات لا يتجاوز اللسان، أو إحساس البدن بالملائم أو المنافر.
ولعلَّ لفظَ الذوقِ يَعْتَوِرُه ما يعتور بعضَ الألفاظِ في دلالتها، من حيث تطورُها، وانحطاطها؛ فهو بالمفهوم الذي مرَّ ذكره معنى سامٍ راقٍ.
ونصوص الوحيين -وإن لم تُشر للذوق بهذا اللفظ- حافلةٌ بما يرعاه، ويُعلي منارَه، ويحذر مما ينافيه.
ولو ألقيت نظرةً عامةً عَجْلى على شرائع الإسلام، وأصوله العظام كالصلاة والزكاة، والحج والصيام - لرأيت ذلك رأي العين.
أليس المسلمُ مأموراً حالَ إتيانه للصلاة أن يكونَ على طهارة، وأن يأخذ زينته عند كل مسجد، وأن يأتي وعليه السكينة والوقار؟ وأن يخفض صوته حال مناجاته لربه؟
أليس منهياً عن رفع الصوت في المسجد، وعن أن يأتي وقد أكل ثوماً أو بصلاً أو نحو ذلك مما يتأذَّى منه المصلون؟
ألم يكن من أدب الزكاة أن تُعطى للفقير خُفْيةً، وعلى وجه يرفع خسيسته، ولا يصدع قناة عزته؟
ألم يُؤمرِ الحجاجُ بالسكينة، ولزوم التؤدة، وترك أذية إخوانهم؟
أليس الصيامُ من أعظم ما يُرهف الحس، ويرتقي بالذوق، ويسمو بالروح؟
أليس فيه شعور بالآخرين، وإحساس بما يعانون من عوز الفقر، وذلة الحاجة؟
ألم تأتِ الأحاديثُ النبويةُ الشريفة منوهةً بخُلوف فَمِ الصائم، وأنه عند الله أطيب من ريح المسك، مع ما فيه من رائحة قد لا تروق؛ جبراً لخاطر الصائم، ونهياً لمن قد يجد في نفسه أذىً من هذه الرائحة، أو كراهة لمن صدرت منه - أن يتفوه بما لا يليق.
ثم إن الآثار الواردة في معاملة الناس على اختلاف طبقاتهم حافلةٌ بهذا المعنى، دالةٌ دِلالةً صريحةً على مراعاته.
وقل مثل ذلك في كثير من المناهي؛ فهي تحذر مما ينافي الذوق، أو يضعف جانبه.
ولا يقف الأمر عند سائر المعاملات حال السلم، بل يتعدى ذلك إلى حال الحرب؛ فيُراعى فيها جانبُ الذوق، وحسنِ المعاملة.
ولو ألقيت نظرةً في ما جاء في أدب الحرب في الإسلام لرأيت ما يقضي منه عجبك؛ فمن ذلك مجاملةُ رُسُل العدوِّ، وتركُ التعرض لهم بأذى؛ فقد يرسل العدوُّ رسولاً في شأن الصلح أو غيره مما فيه تخفيف شر الحرب؛ فَمِنْ حُسْنِ الرأي أن لا يُتَعَرَّض للرسل بأذى، وأن يكونوا في أمن حتى يعودوا إلى قومهم؛ فإن التعرض لهم بأذى يقطع صلة الرسالة بين الفريقين، ويسد طريق المفاوضات التي يُتَوسَّل بها إلى عدم الدخول في الحرب، أو إنهائها إذا كانت ناشبة.
ومكارم الأخلاقِ تأبى أن يُتَعَرَّض لرسول بأذى ولو أرسله قومه لإبلاغ ما عزموا عليه من محاربتنا، أو صدر منه كلام في تعظيم أمر قومه بقصد الفخر أو الإرهاب.
وقد جرى نظام الإسلام في الحرب على هذا الأدب المقبول.
قَدِمَ أبو رافع -رضي الله عنه- بكتاب من قريش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأى رسول الله ألقِيَ في قلبه الإسلام، فقال: يا رسول الله: إني والله لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما أني لا أخيس بالعهد، ولا أحبسُ البُرُدَ، ولكن ارجع؛ فإن كان في قلبك الذي في قلبك الآن فارجع".
قال: فرجعت، ثم أقبلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأسلمت.
ومن ذلك تجنب قَتْل مَنْ لا يُقَاتِلُ؛ فالإسلام يحرم قَتْلَ نساء المحاربين، وصبيانهم، والطاعنين في السن منهم، ورهبانهم إن لم يحاربوا.
روى عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتل النساء والصبيان.
وروى ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه -عليه الصلاة والسلام- كان إذا بعث جيوشاً، قال: "لا تقتلوا أصحاب الصوامع" يعني الرهبان.
وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في وصيته لجيش أسامة -رضي الله عنه-: "وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له".
وقال: "ولا تقتلوا طفلاً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة".
ومن وصايا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لأمراء الجيش: "ولا تقتلوا هرِماً، ولا امرأة، ولا وليداً، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات".
ويلحق بهؤلاء في تجنب قتلهم المريضُ، والمقعدُ، والأعمى، والمجنون.
وكذلك روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- النهي عن قتل العسيف، وهو الأجير.
وبهذا يظهر أن الإسلام إنما يَقْصِدُ من الحربِ قِتَالَ مَنْ يَقْصِدون لأن يُقَاتِلوا، ولا يصح القَصْد لقتل من ليس شأنه القتال.
ومن ذلك حسن معاملة الأسرى؛ فإذا وقعت طائفة من العدو المحارب في أسرنا لم يجز لأحد من الجنود أو غيرهم أن يمسهم بأذى، وإنما يرجع أمرهم إلى رأي ولي الأمر الواسع الخبرة بوجوه المصالح، فيعاملهم بما تقتضيه خطة الحزم، وما تمليه سماحة الأخلاق.
وذهب من علماء السلف الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح -رحمهم الله- إلى أن ولي الأمر يخير في الأسرى بين أن يطلقهم على وجه المن، أو يطلقهم بفداء، وتمسكوا في هذا بقوله: (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) محمد:4.
فهذه إشارات سريعة تدل على عناية الإسلام بهذا الجانب.
وكتب التفسير، والفقه، والأحكام، والآداب مليئة بما يقرر هذا المعنى.
وهكذا نجد أن الإسلام يرتقي بذوق أهله، وينأى بهم عن كل خُلُقٍ أو تَصَرُّفٍ يعاكس سلامةَ الذوقِ، أو يوهي حبالها.
ومع ذلك كله فإنك تلحظ خللاً كبيراً في هذا الجانب، وتشهد مظاهر عديدة من هذا القبيل تَمُرُّ بك كثيراً في حياتك اليومية.
وقد يكون ذلك الخلل أو المظهر صغيراً في عين من يقع فيه، ولكنه يُحدث فساداً عريضاً، وربما لا يبقى للمودة عيناً ولا أثراً.
فجديرٌ بالمسلم العاقل أن يرعى هذا الجانبَ، وحقيقٌ عليه أن يحذر مما ينافيه من الجفاء، والكزازة، والغلظة وما جرى مجرى ذلك.
وإن من علامات السعادة للإنسان أن يرزق ذوقاً سليماً مهذباً؛ فإنه إذا كان كذلك عَرَفَ كيف يستمتعُ بالحياة، وكيف يحترمُ شعورَ الآخرين ولا ينغص عليهم، بل يدخل السرور عليهم؛ فصاحب الذوق السليم قادرٌ على استجلاب القلوب، وإدخال السرور على نفسه وعلى من حوله.
وإذا ساد الذوق السليم في أسرة أو مجتمع رأينا كلَّ فرد من هؤلاء يتجنب جرح إحساس غيره بأي لفظ، أو عمل، أو إشارة، أو أي شيء يأباه الذوق.
ورأينا كل فرد يقوم بما أسند إليه من مسؤولية على أكمل وجه وأتمه.
إن الذوق السليم في الإنسان يرفعه إلى حد أن يتخير الكلمة اللطيفة، والتصرف الملائم الذي يمنع الإحراج، ويدخل السرور على الآخرين.
بل إن صاحب الذوق السليم يأبى النزاع، وحدة الغضب.
ولا يبالغ الإنسان إذا قال: إن رُقِيَّ الذوق أكثر أثراً في السعادة من رقي العقل؛ إن الذوق إذا رَقِيَ أَنِفَ من الأعمال الخسيسة، والأقوال النابية، والأفعال السخيفة.
أما من جفَّ طبعه، وكثفت نفسه، وقلَّ ذوقه - فلا تَسَلْ عما سيحدثه من شرخ في الناس، وما سيجلبه من شقاء لنفسه وغيره، فتراه لا يراعي مشاعرَ الآخرين، ولا يأنف من مواجهتهم بما يكرهون؛ فإذا ما حضر مجلساً، وابتدر الكلام وضَعْتَ يَدَك على قلبك؛ خشيةَ أن يَزِلَّ، أو يَفْرُطَ على أحد من الحاضرين.
فإذا ما وجد مجالاً يشبع فيه طبيعتَه النَّزِقَةَ الجهولَ - هام على وجهه، لا ينتهي له صياح، ولا تنحبس له شِرَّة.
فتارة يُذَكِّر الحاضرين بعيوبهم، وتارة يؤذيهم بلحن منطقه، وتارة يذكِّرهم بأمور يسوؤهم تَذَكُّرُها.
"أكب رجل من بني مرة على مالك بن أسماء يحدثه في يوم صيف، ويُغِمّه، ويثقل عليه، ثم قال: أتدري من قتلنا منكم في الجاهلية؟
قال: لا، ولكني أعرف من قتلتم منا في الإسلام.
و قال: من هم؟
قال: أنا قتلتني اليوم بطولِ حديثك، وكثرةِ فُضولك".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "ومنهم مَنْ مُخالطتُه حُمَّى الروح، وهو الثقيل البغيض العقل، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يُحْسِن أن ينصت؛ فيستفيدَ منك، ولا يعرفُ نفسه، فيضعُها في منزلتها.
بل إن تكلم فكلامُه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به؛ فهو يُحْدِثُ مِنْ فِيِهِ كلما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرّحا العظيمة، التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض.
ويُذْكَرُ عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال: ما جلس إليّ ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر.
ورأيت يوماً عند شيخنا [1] -قدس الله روحه- رجلاً من هذا الضرب، والشيخ يحمله وقد ضعفت القوى عن حمله، فالتفت إليّ وقال: مجالسة الثقيل حمى الرَّبَع، ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى، فصارت لها عادة، أو كما قال".
ولهذا فالرجل النبيل، ذو المروءة والأدب هو من يراعي مشاعر الآخرين، ويحفظ عليهم كرامتهم وماء وجوههم.
"قال بعضهم: صحبت الربيع بنِ خثيم عشرين عاماً ما سمعت منه كلمةً تعاب".
وكذلك ترى قلة الذوق عند بعض الناس حتى في حال تأديتهم لشعائر الإسلام العظمى؛ فترى بعض الناس لا يراعي ذلك في الصلاة، فربما أتى ورائحته مؤذية كمن يأكل الثوم، أو البصل، أو يشرب الدخان.
وترى القلوب في بعض الأحيان في المساجد قد بلغت الحناجر، فلا يحتمل الواحد أدنى توجيه أو إشارة أو طلب تقدم أو تأخر.
وترى العراك الذي قد يصل إلى حد الاشتباك حول التكييف وما شاكله.
وقل مثل ذلك وأشد في الحج، فكم هي المآسي عند الطواف، ورمي الجمار، وعند الحلق أو التقصير، أمور لا تخفى على ذي لب.
وأما ما يحصل في المقابر حال دفن الجنائز - فحدث ولا حرج؛ فهذا يرفع صوته، وذاك يكثر من التدبير في غير محله.
ثم إن التزاحم حول القبر، ومضايقة من يقومون بالدفن أمر يحزن القلب، ويعطل الناس.
ومما يدخل في ذلك - قلة الذوق في قيادة السيارة، ويتجلى ذلك في التهور في قيادتها، وقلةِ المراعاة لقواعد السير، ولبقية الناس ممن يسيرون في الأماكن العامة، وأذيةِ الآخرين بالتفحيط ورفع أصوات الغناء، ورمي المخلفات في الشوارع.
ويدخل في ذلك ما يفعله بعض سائقي السيارات؛ حيث يأخذ مكاناً كبيراً إذا أراد إيقاف سيارته في مكان عام، فيضيق على الناس، ويحرمهم من حقهم، ولو أنه وقف كما ينبغي لاتسع المكان، واستفاد منه عدد أكبر.
ومن قلة الذوق ما تراه عند إشارة المرور من قطع للإشارة، وتسبب في الحوادث، وكذلك ما تراه مِنْ تَقدُّمٍ على مَنْ له حقٌّ في السير كما هو الحال عند الأماكن التي يوجد فيها دوَّار؛ فتكون الأفضلية للقادم من الدوار، غير أن بعض الناس يجعل القاعدة في ذلك أن الأفضلية للجزوم!!
وكلمة (الجزوم) في العامية الدارجة تعني صاحب المغامرة الذي قد لا يبالي بالعواقب.
ومن قلة الذوق ما تراه عند صَرَّافة النقود؛ حيث ترى بعض الناس يتخطى مَنْ قَبْلَهُ، وترى منهم من إذا جاء دَوْرُه في الصرف اشتغل بمكالمة عَبْرَ جواله، وإذا فرغ من مكالمته بدأ يبحث عن بطاقته، ثم إذا صرف وقف ينظر في كشف حسابه، وربما أطال الوقوف.
كل ذلك والناس على أحر من الجمر ينتظرون فراغه.
ولو أنه استعد للصرف قبل أن يأتي دوره، وانصرف حال انتهائه من غرضه - لكان خيراً له، وأكمل في أدبه.
بل يدخل في قلة الذوق ترك العناية بطريقة إلقاء السلام أو الدعاء؛ فربما يقولها بعض الناس بنبرة موحشة، موغرة للصدر؛ فتكون مجلبة للضغائن بدلاً من أن تكون برداً وسلاماً.
ومن قلة الذوق -وهو كثير- ما يقع في البيع والشراء من كثرة المماكسة، وإذلال صاحب المتجر، أو صاحب الصنعة.
ومن قلة الذوق سوء طلب الحاجة؛ فبعض الناس لا يُحسن ذلك؛ فتراه يلحف، ويلح، ولا يراعي الوقت المناسب.
ومن قلة الذوق ما يقع في المكالمات الهاتفية، والرسائل الجوالية على وجه الخصوص؛ فقد تكون الرسالة الجوالية ملائمة لشخص، ولكنها غير ملائمة لآخر، وقد تكون صالحة لأن ترسل لكبير قدر أو سنٍّ، ولا تصلح أن ترسل إلى غيره، وقد يصلح أن يرسلها شخص ولا يصلح أن يرسلها آخر، وقد تصلح لأن ترسلها لمن يَعْرفك ويَعْرف مقاصدك، ولا يصلح أن ترسلها لشخص لا يعرف مقاصدك، أو لشخص شديد الحساسية سيء الظن؛ فمراعاة تلك الأحوال أمر مطلوب.
وكم حصل من جراء التفريط بذلك الأدب من إساءة ظن، وقيام لسوق العداوة.
ومن قلة الذوق ما تراه من الكتابات البذيئة على جدران الأماكن العامة؛ فهي تشوه وجه البلد حساً ومعنىً، وتربي على قلة الحياء، وربما كانت سبباً في شيوع الفاحشة.
ومما يدخل في هذا القبيل قلةُ المراعاة لأدب المحادثة كالثرثرة، والاستئثار بالحديث، وكثرةِ الأسئلةِ وتَعَمُّد الإحراج فيها، والحديث بما لا يناسب المقام، والتعالي على السامعين، وترك الإصغاء للمتحدث، والاستخفاف بحديثه، والمبادرة إلى إكماله، والقيام عنه قبل إكمال حديثه، والمبادرة إلى تكذييبه.
ويدخل في قلة المراعاة لأدب المحادثة رفع الصوت بلا داعٍ، والشدة في العتاب، والغلظة في الخطاب، والجدال والمراء والخصومة، وبذاءة اللسان، والتفحش في القول، والتقعر في الكلام.
ومما يدخل في قلة الذوق قلة المراعاة لأدب المجالسة، كتتبع عثرات الجليس، وإظهار الملالة منه.
ومن ذلك تناجي الاثنين دون الواحد، والجلوس وسط الحلقة، والتفريق بين اثنين متجالسين دون إذنهما، وإقامة الرجل من مجلسه، والجلوس مكانه.
وبالجملة فالأمثلة على قلة الذوق كثيرة، وما مضى إنما هو إشارات ليس إلا.
فياليت جانب الذوق يلقى عناية ونصيباً من تعليمنا، ودروسنا، وخطبنا، وإعلامنا؛ لنتجنب كثيراً من الشرور التي ربما كان سببها التقصير في هذا الجانب[2].
محمد بن إبراهيم الحمد
تنمية الذوق والحس الجمالي
تنمية الذوق والحس الجمالي
(ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون). (النحل/6)
(انا جعلنا ماعلى الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً). (الكهف/7)
(قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده). (الاعراف/32)
(يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد). (الاعراف/31)
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله:
(مامن رجل يموت حين يموت وفي قلبه مثقال حبة من خردل من كبر يحل له الجنة، ان يريح ريحها ولايراها).
فقال رجل من قريش، يقال له ابو ريحانة: والله يارسول الله إني لاُحب الجمال واشتهيه، حتى اني لاُحبه في علاقة سوطي، وفي شراك نعلي.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ليس ذاك الكِبر، ان الله عزوجل يُحب الجمال، ولكن الكِبر من سفه الحق، وغمصَ الناس بعينه)(37).
لقد اعتنى الاسلام عناية بالغة بموضوع الجمال وتنمية الذوق والحس الجمالي.
فلقد تحدث القرآن عن الزينة والجمال، ولفت نظر الانسان الى مافي عالم الموجودات من جمال وروعة وفن وابداع لتكون دليلاً على قدرة الله وعظمته. وتتضح أهمية القيم الجمالية في الفكر الاسلامي عندما نقرأ في كتاب الله وصف الله نفسه بأنه بديع السموات، وانه المصور والخالق الذي أضفى على كل شيء في هذا الوجود مسحة الجمال والاتقان.
ولنا في بيان الرسول وسلوكه العملي ايضاح كاف لاهتمام الاسلام بالجمال والتربية الجمالية، فها هو يصف الله سبحانه بأنه: (جميل يحب الجمال، وبذا يرتفع الجمال المطلق الى أعلى مراتب الوجود واسمى حقيقة يشتد الشوق اليها والسعي نحوها.
والرسول (صلى الله عليه وآله) كان المثل الانساني الاعلى في الاناقة والجمال وسمو الذوق.
إن التربية الجمالية تربي في الانسان سمو الذوق الذي يتجسد في انماط السلوك والعلاقات الاجتماعية كما يتجسد في الاشياء والموضوعات الحسية. وهي الى جانب ذلك تفتح الافق النفسي والعقلي والوجداني لدى الانسان، وتشده الى مبدع الخلائق والجمال في هذا الوجود، وهو الله سبحانه.
فالجمال والتربية الجمالية طريق الى معرفة الله، ودليل على عظمته والارتباط العقلي والوجداني به.
فالكون بكل مافيه من تناسق وروعة وجمال يشكّل لوحة فنية أخّاذة، ومصدراً للالهام الفني والجمالي وتربية الحس والذوق والمشاعر وتهذيبها.
وقد ثبّتت دراسات الفلاسفة الاسلاميين القيم الانسانية العليا (الحق والخير والجمال) وجعلتها هدفاً أسمى في هذا الوجود يسعى الانسان لبلوغها، وتحقيق مصاديقها، وبناء الحياة على أساسها.
كما وبحث علماء الكلام (علماء العقيدة الاسلامية) وعلماء أصول الفقه مسألة الحسن والقبح في الافعال والاشياء بحثاً علمياً مفصلاً، فنفوا عن الله فعل القبيح، وأثبتوا له الفعل الحسن. وعلى تلك المبادي أسسوا قيماً ومفاهيم وأسساً تشريعية لتنظيم السلوك الفردي والعلاقات الاجتماعية فجعلوا الحسن أساساً لبناء الحياة.
وتأسيساً على موقف الاسلام من الحسن والجمال يتحمل الاباء والمربون تعميق هذا الشعور في نفس الطفل والناشىء وتحبيب الجمال إليهما، فان تربيته على تلك القيم تعني تربية الذوق والحسن الجمالي عندهما وتهذيب سلوكهما وأخلاقهما والحس الوجداني لديهما وتعميق القدرة عندهما على التمييز بين الحسن والقبيح، والتفاعل مع الجمال المادّي والمعنوي.
ان تدريب الطفل منذ نشأته على الاناقة ومشاهدته للعناية الاسرية بمظاهر الاناقة والجمال، وحثه على حسن ترتيب ادواته المدرسية والعناية بمظهره، ومشاهدته آثار الجمال في البيت، في هندسته والوانه وحديقته، في سندان الازهار... وفي اللوحة الفنية في البيت والمشاهدات التلفزيونية والمجلات والمصورات ومحفظة الاسرة الصورية (الالبوم) وفي حديقة البيت والطيور التي ترى فيها، بل وفي تنظيم مائدة الطعام وتصفيف الفاكهة في الاناء والاواني في المعرض الزجاجي في البيت..الخ.
واستصحابه في السفر ليتمتع بمشاهد الطبيعة ومناظرها الخلابة، وتوعيته وإلفات نظره الى مواطن الجمال، وتعبير الابوين عن التأثر بالمظاهر الجمالية والثناء على اهتمامه بمظهره وعنايته بترتيب أدواته، وتحسين خطه الكتابي وتشجيعه على الرسم والخط والتصوير، وعمل التشكيلات الفنية البسيطة من الشمع والازهار، وقطع السيراميك، والقطع البلاستيكية والخشبية الملونة..الخ وإعطاءه الحرية في اختيار ملابسه ومساعدته على الاختيار.
ان هذه المشاهد والاثارات والارشادات والممارسات وغيرها تنمي في نفسه الاحساس الجمالي والقدرة على الاداء الفني.
إن النقد لمظاهر القبح واشعاره بالنفور من المظاهر الفاقدة للجمال يُكون لديه حساً نقدياً، ويعمق في نفسه النفور من القبح، والاقبال عى الحسن والجميل من الفعل والقول والسلوك والاشياء.
ينبغي ان نربي الطفل والناشىء على أن الجمال يتجسد في القيم... يتجسد في الكلمة الطيّبة وفي حسن المنطق، وأدب الكلام، وحسن المعاشرة، وفي فعل الخير واحترام الحق. كما يتجسد في الموضوعات الحسية: في الشكل الانساني، وفي اللباس والعطر، وحقول الازهار، وبناء البيت وهندسة المدن واللوحة الفنية..الخ، لينشأ على القيم، ويوظف الجمال في تهذيب السلوك وسمو الذوق.
ولاهتمام الاسلام بالجمال، وسعيه لطبع شخصية الطفل بهذا الطابع، وتوفير العناصر الجمالية في حياته، دعا الى استحباب ان تكون مرضعة الطفل حسناء وضيئة، وكره ان ترضعه المرأة القبيحة المنظر.
ورد هذا التوجيه عن الامام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) في قوله لاحد أصحابه: (استرضع لولدك بلبن الحسان، وإياك والقباح، فان اللّبن قد يعدي)(38).
كما ورد عنه (عليه السلام) أيضاً:(عليكم بالوضّاء من الظئورة (39)، فان اللبن يعدي)(40).
وهكذا تتضح أمامنا أسس ومبادي لتقويم الجمال والاهتمام به كموضوع ينتجه الفن ويسمو بالنفس والذوق والمشاعر ويشيع فيها الحب والسرور.
شكر لكل من مر على الموضوع
شكرا استاذ احمد على الكلمات التي وصفتني بها , سعدت بها كثيرا.. اشكرك استاذ دياب على تعليقك والذي قراته بعناية .. شكرا لكم جميعا