دقة ملاحظة:
نعم.. توصيل الشعور بالاحترام يحتاج إلى وقت كما يحتاج إلى حصافة ودقة ملاحظة. يحتاج من المربي وقتًا لينظر في قسمات الوجوه، ويتمعن فيها ليستشف منها ما يحمله الأطفال من شعور. هل يشعر الطفل بنشوة ومتعة، أم يشعر بتعب وإرهاق، أم يشعر بصعوبات في التعلم... هذا يجعل من التفاعل مع كل طفل يتسم بالخصوصية التي تشعره بالحب والاحترام وأن هناك من يفهمه. احترام آدم للتلاميذ من خلال الأداء العملي واللفظي كان جزءًا من الصورة الجميلة لمعاني الاحترام التي يرسمها هذا المعلم المبدع ولكنها لم تكن كل ما تحتويه هذه الصورة. فكما هو الواجب أن يراعي المعلم في ألفاظه وتعاملاته إبراز جانب الاحترام، يجب عليه أيضًا أن يتابع بعناية هذا الجانب من السلوك فيما بين التلاميذ.. أذكر مرة أن أحد التلاميذ انتزع قلمًا من زميل له مما اضطر الآخر إلى الشكوى لدى آدم والذي بدوره ذهب إلى الطفل الآخر فقال: أخبرني زميلك بأنك قد أخذت قلمه وأنا أود أن ترجع له قلمه وأنا سأجد قلمًا بديلاً لك. عندما وقع هذا الحدث وتمعنت فيه وجدت أن آدم لم يجعل التلميذ الآخر في موقع التهمة ولكن عرض الموضوع وكأن هناك حاجة لدى الطفل للحصول على قلم لكنه أخطأ الطريقة وساعده على تلبية هذه الحاجة بأسلوب يتسم بالاحترام دون أن يحوج المقابل لأن يأخذ جانب الدفاع والذي غالبًا ما يحمل صاحبه على أن يتبنى وجهة النظر المعاكسة. هذا لا يعني أن آدم يتجاهل دائمًا أخطاء التلاميذ ويتجنب معالجتها، بل العكس صحيح. إن ما يقوم به آدم هو محاولة معالجة السلوك المنحرف من جذوره ويتجنب التشهير به أو وضع الطفل في موضع يفقد فيه احترامه لنفسه، وبالتالي لا يبالي فيما بعد أن يعاود السلوك الخاطئ عن قصد وترصد. ففي المثال سابق الذكر حول حادثة أخذ أحد الأطفال قلم صاحبه، جهد آدم في معالجة القضية لم ينته عند الحل المذكور، ولكن أراد تأجيل الحديث عنها قليلا ليعالج أساس المشكلة دون أن يشعر أحد من التلاميذ أن هناك ارتباطًا بين الحادثة والعلاج المقترح.
مشاركة في اتخاذ القرار:
في كثير من الأحيان كان آدم يدع مجالاً للأطفال جميعًا للمشاركة وإبداء الرأي لحل المشكلات التي تقع ويكون دوره هو فقط ملاحظة أسلوب الحوار وكيفية الوصول إلى النتائج مع توجيه محدود للأسلوب المتبع أحيانًا. يقول آدم معلقًا على هذا الجانب: من خلال خبرتي، وجدت أن الحلول والأنظمة التي يتوصل إليها الأطفال بأنفسهم، غالبًا ما تكون أكثر فاعلية وأدعى أن يحترموها، وهم في الوقت نفسه يتعلمون أشياء كثيرة من خلال هذه الطريقة. العجيب في الأمر، أن آدم كان نادرًا ما يتدخل لعرض حلوله المقترحة وعندما سألته عن السبب قال: أحب أن أحترم استقلاليتهم وقدراتهم التفكيرية، فإن تدخلت برأيي فغالبًا ما سيؤثر في آرائهم ويحول بينهم وبين الطلاقة في التفكير في كل اتجاه. هذا ما يدفع آدم إلى السؤال عن الذي يجب فعله بدلاً من ذكر ما يجب فعله في الحالات التي تستوجب تدخل المعلم أو المربي لتعديل سلوك بعينه أو سوء فهم بين الأطفال. فعند حدوث مشكلة ما في الصف غالبًا ما يعرضها بأسلوب موضوعي أمام الجميع ثم يطلب من الجميع المشاركة في إيجاد الحلول. فبعد أسبوعين من حادثة أخذ القلم، طرح آدم النشاط التالي لتتم دراسته في مجموعات ومن ثم بصورة جماعية: أخذ أشياء الآخرين دون استئذان قد يغضب بعض الأطفال، فما الحلول المقترحة لتلافي هذه المشكلة؟ مثال آخر ولعلاج مشكلة أخرى: ماذا يمكن أن تشعر به عندما يتعمد أحد إغاظتك؟ وما الحلول المقترحة؟ الذي وجدته بالإضافة إلى فاعلية هذا الأسلوب في بث روح الاحترام بتحسس حاجات الآخرين، فاعلية هذا الأسلوب في بث روح التفاعل والحيوية في الصف مع تنمية قدرات الحوار والمناقشة بأسلوب راق قد لا يجيده كثير ممن هم في مستويات أعلى.
الكمال النبوي ما شاهدته في غرفة آدم الدراسية ذكرني بالمنهج النبوي في التربية والذي هو وبلا شك أكمل وأشمل وأجدر أن يقتدى به. ذكرني بأحاديث طالما تدارسناها ورددناها عن المربي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، لكن وللأسف الشديد لم نتجاوز مرحلة الإعجاب بها. أذكر في هذا المقام كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يغرس روح الاحترام في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم، وذلك من خلال المنهج العملي والذي لا يخلو من إشارات واضحة يتعلم منها جميع من حضر. روى الإمام البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله يا رسول الله، لا أؤثر بنصيبي منك أحدًا، فتله ـ أي وضعه ـ رسول الله عليه وسامفي يده (4). كم في هذا الحديث من معان في احترام حقوق الأطفال مهما كانت ثقيلة على الكبار بل والأشياخ.
اسمح لي أيها القارئ الكريم أن أطلب منك أن تتصور الموقف وتطبقه على نفسك، ثم ضع أنت قوائم من الفوائد التربوية التي يمكن أن تجنيها أنت وأطفالك من هذا السلوك. ثم تعال معي إلى معنى أعمق لمظاهر الاحترام لعقول الأطفال لم يصل إليه آدم بعد ألا وهو توفير خبرات حية يتم إعدادهم من خلالها للمستقبل، كما يشعر من خلالها الأطفال بأهميتهم في هذا المجتمع؛ يتحملون جزءًا من مسؤولياته. روى الإمام البخاري عن أنس رضى الله عنه أنه قال: (أسر إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم سرًا، فما أخبرت به أحدًا بعده، ولقد سألتني أم سليم فما أخبرتها به)(5). أليس في ذلك تربية على احترام العهود، أليس في ذلك تنمية لثقتهم بأنفسهم، أليس في ذلك تعزيز لمعنوياتهم، أليس في ذلك إثراء لعلاقاتهم بالمجتمع؟

تنمية روح الاحترام وتنمية الإبداع:
هل لتنمية روح الاحترام علاقة بتنمية الإبداع؟ أقول وبملء فيّ: نعم، بل هو من الأسس المهمة للبيئة المشجعة على الإبداع. إن النظريات العلمية والتجارب العملية نصت على أن من أهم عناصر الإبداع القدرة على توليد أفكار كثيرة وجديدة لم يعتدها المجتمع من حوله(6) (Torrance, 1987) هنا قف قليلاً وتمعن، هل فاقد الشعور بالاحترام قادر على أن يولد الأفكار؟ إن فاقد الشعور بالاحترام هو فاقد للشعور بالأمان. عندما تكون في بيئة لا ترى للتميز وزنًا، ولا تستطيع أن تقف أمام فكرة جديدة إلا أن تسفهها وتسفه صاحبها، فهل ستكون آمنًا مطمئنًا على نتاج فكرك. هل سيكون همك هنا توليد الأفكار الإبداعية أم ما يكفّ اللوم عنك ويغضُّ الطرف عن سوءاتها المحتملة. حتى نربي وننمي في أبنائنا السلوك الإبداعي، لا بد لنا أن نهيئ له بيئة تربوية تحترم عقله كما تحترم رأيه، بيئة تحترم تساؤلاته وحيرته، بيئة تفتح له آفاق النقاش وتشجعه على البحث وتستميله للتفكير.
رؤية داخلية:
ربما لا يتذكر الأطفال ماذا قلنا لهم فيما يتعلق بالاحترام، لكن وبكل تأكيد سيتذكرون أننا كنا نتعامل معهم باحترام أم لا. إنهم يتعلمون من خلال مشاهدتهم لأفعالنا، وليس من خلال ما يسمعون حول ما يفترض أن يكون من سلوكيات. لا نستطيع أن نثبت لأطفالنا أن ما نقوله حول الإحترام أمر مهم وجاد ما لم نعشه واقعًا. إذا أردنا من أبنائنا أن يحترموا حقوق الوالدين، وحقوق المعلم، والجار، والصديق، والوطن.. إلخ لا بد أن يشاهدوا هذا السلوك متمثلا في سلوكنا معهم ومع غيرهم؛ في البيت في المدرسة، في أثناء قيادة السيارة، في أثناء تأديتنا للصلاة في المسجد، وفي أثناء حديثنا عن الآخرين. نعم.. لا بد أن نتعلم أن أعمالنا أصواتها أعلى من أقوالنا. عندما نضع القوانين، عندما نتحدث عن ما يجب أن يكون، ثم نخالف ذلك كله أو بعضه فإن ذلك رسالة قوية واضحة وصريحة أن هذه الأمور كلها ليست مهمة بالدرجة الكافية.


بواسطة: غالية نوام
موسوعة التعليم والتدريب
http://www.edutrapedia.illaf.net/ara...e.thtml?id=909