دور المؤسسات الثقافيّة
في حين يجد السّيناريستوالمُخرج العراقي سعدي صالح البريفكاني أنّ للمؤسسات الثقافيّة والإعلاميّة دورًالا يُستهان به في نمو تلك المُشكلة، وعن هذا قال: " إن اللوم أولاً يقع علىالمؤسسات الثقافية والإعلامية، وثم على المُجتمعات التي لا تولي لهؤلاء المُبدعينوالمثقفين أي تقدير .. إن ظهور وتفشي هذه الحالة في مجتمعاتنا امتداد طبيعي وتلقائيلعدم تقدير أو احترام دور المُعلم .. فكما أن التعليم والمعلم لم يعد لهما تقديرواحترام من قبل الأجيال التي يعلمها ويدرسها ويُربيها فإن المجتمع أيضا استلهم هذهالنّظرة وأصبح لا يولي أي أهمية أو احترام للمثقفين والمُبدعين الذين هم مُعلّموالمُجْتمعات والشعوب".. أمّا الحل فيرى سعدي أنّه:" إن لم تبادر الدّولة إلى إعادةهؤلاء إلى موضعهم المنطقي وتقديرهم المفترض فلن تكون هناك حُلول قريبة أو جادّة .. فإن كان القائمون على الدّولة يريدون أن يُخططوا لمستقبل مُشرق لِمُجْتمعاتهم فلابد أن يُخططوا لذلك بالمشاركة مع أصحاب الرّؤية من المُبدِعين والمثقفين المَنسيينمنذ عقود على مقاعد المقاهي أو ضِمن أُطُر وظائف ومِهن أُجبروا على العمل فيها منأجل العيش .. في حين تُمنح امتيازاتهم لآخرين لا يفقهون من هذا العالم شيئا غير بعضالمصطلحات والكثير من الدّهاء والمؤامرات للبقاء أطول وقت ممكن تحت أضواء برّاقة لمتخلق لهم .. لأن الأمل في أن يُدرك المُجتمع هذه الأهمية من تلقاء نفسه أملٌ ضعيفٌجدًا إن لم يكُن معدومًا نهائيا"
مأساة المُبدعالعربي
أصاب الكاتب المصري ورئيس مؤسسة الكلمة نغم للنشر محمد محفوظكبد المأساة حين أكّد: "لا يشعر بمأساة المُبدع العربي الحقيقي في الوقت الرّاهنإلا هو ومن على شاكلته.." قبل أن يُكمِل: "حيث أنّه موضوع بين حجري الرّحى، فالحجرالعلوي يتمثّل في البناء الفوقي للمُجتمع، والمتمثّل في قوانين الدّولة، والثّقافةالسائدة والموروثة، والبناء التّحتي المتمثّل في الشّعوب التّابعة وما هو مسموح بهلها. فالحجر الأوّل، أو البناء الفوقي، لم يُنظّم قوانين للمُبدع الحقيقي تضمن لهحياة كريمة، أو تجعله يقتات كما يقتات المُتوسّطون في الدّخل. حتّى قوانينالمُلكيّة الفكريّة؛ موضوعة في أدراج التّعليق دون أدنى تطبيق، دون أن يُلتفت إلىأنّهم أمان لاستمرار بقاء الأمّة في الاتّجاه الصّحيح، لأنّهُم مُراقبو وموجّهوحركة سير المُجتمع. أمّا طبقة الشّعوب فإنّها تنظر إليهم باعتبارهم أهل استهلاك لاإنتاج، وأهل ترفيه وتسلية لا رِسَالة ومُعاناة. ويظلّ المُبدِع الحقيقي بينالحَجَرَيْن في العصْرِ الحالي. وأنا أقصد بالمُبدع الحقيقي من هُم بعيدًا عنمُهرّجي أرباب المناصب، أو بائعي المُتعة على أنّها إبداع. تلك النّظرة للمُبدعالحقيقي هي ما تجعله لا يستطيع التكيّف مع المُجتمع، فأميّة التّلقي، وجور الرّقيب،جعلا المُبدع كثيرًا ما يجلس على الرّصيف، مُفكّرًا في ثمن الرّغيف، تاركًا ساحةالإبداع للمُترفين أو المُزيّفين، وكلاهُما يُقدّمان الجهل مُعتّقًا، والكذبمُنمّقًا، فجاءت النّتيجة زيادة الأميّة، وانكسار جميع طبقات الشّعب العربي، حيثأنّ المُبدع هو الوحيد المُستخدم للحِسّ والفؤاد والعقل، وَهُوَ الْمُبَرِزُلِصِحَّةِ الْقَضَايَا، وَزَيْفِها.. وَهُوَ الْمُفْلسِفَ لِلأُمُور، وَالْحَالِمُبِالْمُسْتَقْبَلِ".
مُنحدرٌ يُفضي إلىالمجهول
استهلّ الكاتب والشاعر الفلسطيني المقيم في الأردن محمد خالدالنبالي حديثه قائلاً:"الثقافة والمثقفين في أيامنا هذه ومن عشر سنين أو أكثرقليلاً يتجهون الي منحدر سحيق يكاد يُفضي بهم إلى المجهول.."ثمّ استطردموضّحًا:"كثير من المثقّفين والمُبدعين الأصلاء أصبحوا لا يكتبون إلا نادرًا، وإنكتبوا فلا تتجاوز كتاباتهم صفحات العالم الرّقمي بسبب ظروف الحياة القاسية، والتيأصبح على الإنسان أن يعمل لأجلها بجد حتى يستطيع إعالة نفسه وأسرته، وهكذا أصبحالأديب لا يجد الوقت الكافي للكتابة بسبب عمله البعيد عن موهبته، و انشغال أفكارهبحياته الشخصية وخاصة المادية، فأصبح مُضطرًا لاستهلاك وقته في أي عمل لكي يستطيعالعيش وتدبّر أمر مُتطلبات الأسرة.. وكيف لهذا الأديب أن يكتب ويبدع وهو غير مستقرفي حياته العَمَلية والأسرية؟ وهنا نرى أن الثقافة تتجه إلى مُنحدر سحيق بسرعةهائلة وبذالك خسِرَت الشعوب العربية المَعْرِفة والتعلم وفي كل يوم تخسر أكثر وكلذالك من جرّاء فقدان الأدباء والمُبدعين الممتازين في مُختلف مجالات الإبْداع "
وبحُكم علاقته الشخصيّة مع أدباء وكتّاب وصحفيين جالس مُعظمهم عن قُربودخل بيوت معظمهم بحكم الصّداقة؛ اختار أن يحكي لنا بعض ما شاهده من ظروفهمقائلاً:"أعرف شاعرًا عروضيًا وقاصًا فائق الثّقافة، يعمل مُدرّسًا براتبٍ لا يُقدّملأفراد أسرته الثّمانية غير الخبز والضّروريّات، وأمام إعجابي الشّديد بنصوصهالأدبيّة سألته مرّةً عن الذي يمنعه عن إعلان أشعاره وجمعها في كتاب؟ فأجابني: "ليسمعي ثمن طباعة ديوان شعري. وإذا طبعته من سيقرأ؟ وماذا سوف أجني منه؟" .. كما أعرفرجُلاً آخر يتمتّع بثقافةٍ شديدة غزيرة يعمل خيّاط ملابس لانعدام المال والاستقرار. و ثالث يكتب أشعار مُحترمة لا يكاد يملك مصروف بيته اليوميّ في أحيان كثيرة لأنّراتبه التّقاعُدي -كموظف سابق في الدّولة- أقلّ من الحد المعقول أمام صعوبة الظّروفالاقتصاديّة، ورابع كاتب وأديب ومُتخصص في شأن اللغة العربيّة يعمل في مجالالتّدريس صباحًا، ثمّ يعمل بعده في "سوبر ماركت" كي يتمكّن من تسيير شؤون حياتهبسلام!.. كما وجدتُ كُتّابًا يُضطرّون لبيع أقلامهم وأخلاقهم من أجل المال لشدّةحاجتهم إليه.. والقصّة الواقعيّة الأكثر إيلامًا من بين جميع ما شاهدت كانت قصّةشاعرٍ أعرفه جيّدًا؛ كان يطبع ديوانه بواسطة حاسوبه الخاص، ثمّ يضم أوراقه بينقطعتي كرتون كي تصير غلافًا للكتاب، ليدور بعدها بكتابه على المحلات التجاريّةومخازن البيع كي يبيع لهم كتابه، أو بالأصح؛ على أمل أن يقبل أحدهم بالتصدّق عليه!" وأفصح عن مدى اهتمامه بإيجاد حلٍ جذري لتلك المشكلة قائلاً: "أرى أننا يجب أن نجدحلول حقيقيّة ونبحث عن بارقة أمل فعليّة حتى لا تنهار أمّتنا لضياع الثقافة فيبلداننا العربية بسبب تلك المُشكلة التي صارت قضيّةً واقعة وتحصيل حاصل، بل عليناالا نفكر في المشكلة بقدر ما نفكر في الحلول، وعليه أطالب كُل مُبدع ومُثقّف فيوطننا العربي بوضع تصوّره، و أن يصرخ لأجْل ذلك عَاليًا وألا يبقى صامتا" .
أمّا الحلول – من وُجهة نظره- فهي بيد أكثر من جهةٍ فاعلة:"على كُلّ دولةٍعربيّة دعم الثقافة و المُبدعين والاهتمام بهم، كما يقع على النّقابات المهنيّةوالمؤسسات والشّركات التّجاريّة دورٌ كبيرُ في التضافُر لتقديم الدّعم الماديّالمعقول. كما يجب تفعيل دور "رابطة الكُتّاب" في كُلّ دولة عربيّة بالتعاون مع "اتّحاد الكُتّاب العرب" للعمل على تحقيق ضمان اجتماعي للمُبدع بما يكفل له ولأسرتهالطمأنينة – على أقلّ تقدير- في حالات الشيخوخة أو المرض أو الوفاة لا سمحالله".
المفضلات