في هذا العصر الذي تفشى فيه العجز وظهر فيه الميل إلى الدعة والراحة.. جدب في الطاعة وقحط في العبادة وإضاعة للأوقات في لا فائدة. في الوقت الذي تتفاقم فيه الأعمال وتتنافس علينا الالتزامات، وما يتبعها من خلق أزمات وتوتر وإحباطات تؤثر بدورها تأثيراً بالغاً على الحالة العضوية والنفسية للإنسان، فإذا بالواحد منا يجد نفسه تحت ضغط تزايد المسؤولية وقلة الوقت المتاح فيصاب بالإحباطات والضغوط المفضية للأمراض.
ففي السبعينات كانت إدارة الوقت الجيدة هي مفتاح النجاح، وفي الثمانينات تطلب الأمر الإدارة البارعة للوقت والقدرة على التعامل مع كثرة الأوراق والمستوى المبدئي من المعرفة بالحاسب، وفي التسعينيات تطلب النجاح إدارة مدهشة للوقت، وآليات قوية لتقليل الأعمال الورقية ومهارة جيدة من الإلمام بالحاسب، أما الألفية الجديدة فهي لا تتطلب فقط الإدارة الخارقة للوقت والورق ومهارات الحاسب المدهشة ومهارات الاتصال، ولكنها أيضاً تتطلب القدرة على مواكبة الخطى شديدة السرعة للابتكارات التكنولوجية وفلترة الكم الهائل الهادر من المعلومات. فيبذل الكثير من الجهد ولكن لا أحد يستطيع المواكبة .
لقد استجبنا لضغط الواقع المادي المرهق، وبددت من أوقاتنا بشكل مفرط مستهلكات الحياة المضنية من فضائيات واتصالات وإنترنت وملاهي وأسواق كبرى، وقد استقبلنا فرط هذه المادية بحفاوة وترحيب بالغ دون قدرة على التحكم ، فإننا نقف الآن أمام عدو شرس متربص يريد استنزافنا وإنهاك قوانا عن طريق سرقة أوقاتنا... لنرى في النهاية إن أوقاتنا ليس بها متسع لأي هامش من طرق التطوير والتحسين الذاتي فضلا من أن يكون لدينا فائض من الوقت لتطوير الآخرين في سياق نهضتنا الحضارية، والأدهى والأمر إنه لا يوجد رصيد من الوقت لإنفاقه على الاهتمام بالأبناء وتربيتهم التربية الصالحة، والحقيقة إن خطورة الأمر لا تكمن في شراسة هذا العدو وحسب، ولكنها تتلبس وتتخفى في أشكال خادعة وبراقة يحسبه الظمآن ماءً ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
فأين واقعنا الآن من قول قتادة بن خليد :
(المؤمن لا تلقاه إلا في ثلاث خلال.. مسجد يعمره، أو بيت يستره، أو حاجة من أمر دنياه لا بأس بها)
فحب المال والسلطان والجاه جُبل عليه بني البشر. فأن يحيا الإنسان في رغداً من العيش مطلب حميد، ولكن بالقدر والكيفية التي تتوافق مع معتقداته وثوابته. وبما يعود عليه أيضا بالنفع والفائدة .

جاء في حكم وقصص الصين القديمة أن ملكاً أراد أن يكافئ أحد مواطنيه فقال له : امتلك من الأرض كل المساحات التي تستطيع أن تقطعها سيراً على قدميك ، فراح الرجل وشرع يطوي الأرض مسرعاً ومهرولاً في جنون.. سار مسافة طويلة فتعب وفكر أن يعود للملك ليمنحه المساحة التي قطعها.. ولكنه غير رأيه وقرر مواصلة السير ليحصل على المزيد.. سار مسافات أطول وأطول وفكر في أن يعود للملك مكتفياً بما وصل إليه.. لكنه تردد مرة أخرى وقرر مواصلة السير ليحصل على المزيد والمزيد.. ظل الرجل يسير ويسير ولم يعد أبداً .. فقد ضل طريقه وضاع في الحياة ، ويقال إنه وقع صريعاً من جراء الإنهاك الشديد .. لم يمتلك شيئاً ولم يشعر بالاكتفاء والسعادة لأنه لم يعرف حد الكفاية (القناعة).

فما أجمل من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء العظيم
" اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه ، واخلف لي في كل غائبة خير "
فقضية الرزق محسومة ومنتهية ، لذلك فالصراع على الدنيا والتكالب عليها سقط من حساب الإنسان الواعي العاقل .. فلماذا إذن تضيع أوقاتنا وراء سراب .
دعونا من مجاملة أنفسنا فلم تجدي نفعاً ، فطموحاتنا الدنيوية في عالمنا اليوم أمست وليس لها حد وليس لها سقف ، والتسابق الحميم عليها أصبح مستعراً... فرحنا نقلد ونتسابق ونتنافس في دنيا الناس من أجل الدنيا ، فأي ثمن باهظ تدفعه لذلك؟؟.. إنها أنفاسك الغالية !!!.. إنها ببساطة تضحية رخصيه بحياتك !!!. فلنا الحق في أن نأخذ منها نصيبنا، ولكن بحكمة العاقل وبما يخدم هدفنا، وبما ينطبق مع مخططاتنا، وبما يكفينا منها ثم تقول نكتفي بهذا القدر.. ونواصل الإرسال بعد الفاصل بعد فاصل من التأمل يتم فيه إعادة ترتيب أولويات حياتنا .
الطموح مصيدة .. تتصور إنك تصطاده ، فإذا بك أنت الصيد الثمين .. لا تصدق ؟ !! إليك هذه القصة ..
ذهب صديقان يصطادان الأسماك فاصطاد أحدهما سمكة كبيرة فوضعها في حقيبته ، ونهض لينصرف .. فسأله الآخر : إلى أين تذهب؟! .. فأجابه الصديق: إلى البيت لقد اصطدت سمكة كبيرة جداً تكفيني .. فرد الرجل: انتظر لتصطاد المزيد من الأسماك الكبيرة مثلي .. فسأله صديقه: ولماذا أفعل ذلك ؟! .. فرد الرجل.. عندما تصطاد أكثر من سمكة يمكنك أن تبيعها .. فسأله صديقه: ولماذا أفعل هذا؟ .. قال له كي تحصل على المزيد من رصيدك في البنك.. فسأله.. ولماذا أفعل ذلك؟ فرد الرجل: لكي تصبح ثرياً.. فسأله الصديق: وماذا سأفعل بالثراء؟! فرد الرجل تستطيع في يوم من الأيام عندما تكبر أن تستمع بوقتك مع أولادك وزوجتك .

فقال له الصديق العاقل هذا هو بالضبط ما أفعله الآن، ولا أريد تأجيله حتى أكبر ويضيع العمر.. رجل عاقل.. أليس كذلك.

يقول فينس بوسنت: أصبح الإنسان في هذا العالم مثل النملة التي تركب على ظهر الفيل .. تتجه شرقاً بينما هو يتجه غرباً.. فيصبح من المستحيل أن تصل إلى ما تريد ..لماذا ؟
لأن عقل الإنسان الواعي يفكر بألفين فقط من الخلايا ، أما عقله الباطن فيفكر بأربعة ملايين خلية . وهكذا يعيش الإنسان معركتين.. معركة مع نفسه ومع العالم المتغير المتوحش ..ولا يستطيع أن يصل إلى سر السعادة أبداً .
أوقاتنا تلك الثروة المهدرة (هذا التعبير الموفق الذي عبر به الشيخ ناصر العمر في أحد شرائطه السمعية عن ضياع الأوقات) أصبحت رهن الضياع، إما سبب تحول أهدافنا ومخططاتنا عن مسارها الصحيح كما ألمح لذلك فينس.. أو لأن طموحاتنا لم تتوافق مع مبادئنا وقيمنا، أو إن المادية المفرطة أغرقتنا كما أغرقت الكثيرين فم نتحمل تبعاتها.

كلمة السر هو أن تعيش وقتك وتستمتع به، ولكنك تبقي عليه باستثمارك له ليضاف إلى رصيدك.
سر السعادة أن ترى روائع الدنيا وتبتهج بها دون أن تسمح لها بخرق قوانينك ومبادئك وقيمك الثابتة، ودون أن تصطدم مع نواميس الكون الغلابة. نجاحك في استغلالك لوقتك هي حاصل ضرب التوازن بين الأشياء ، وبين أدوارك في الحياة .

من أجل تحقيق هذا التوازن والتوافق والأداء الجيد لأوقاتنا؟ يجب اتخاذ الخيارات المناسبة وتحديد الأوليات وزيادة الإنتاجية الشخصية ومهارات الإدارة الذاتية، وحسم الصراع بين الأولويات والتوقعات والتحكم في التوتر، ما يؤدي إلى تغيير جوهري لكيفية العمل والحياة