3 - الحالة الانفعالية والعقلية يحتاج التفكر إلي الطمأنينة والهدوء النفسي والصحة الجسمية والنفسية . وتؤكد الأْبحاث أن التركيز الذهني وحل المشكلات يضعف مع ازدياد التوتر والقلق ولا شك أن المرض النفسي أشد علي المؤمن المتفكر من المرض الجسمي العضوي , بل أن كثير من العباد يستبشر بما يلاقيه من أمراض جسمية , وريما تصبح هذه الأمراض الجسمية نفسها مجالا للتأمل والتفكر ولا تمنعهم من الذكر والعبادة أما الهم والحزن والإكتئاب وضيق الصدر فأعداء للصفاء الذهني الذي يحتاجه المؤمن الذاكر المتفكر ، بل ربما يكون ذلك سببا في تثبيطه ومنعه من القيام بأي عمل مفيد ،لذلك فقد استعاذ الرسول صلي الله عليه وسلم في دعائه المشهور من الهم والحزن والعجز والكسل ونري أن العجز والكسل ربما يكونان نتيجة طبيعية للهم والحزن .
العوامل البيئية : هي درجة معرفة المؤمن بالشئ الذي يتفكر فيه والقدوة الصالحة وأثر الصحبة .
ان التفكر الصحيح – كما أْسلفنا – نشاط يشمل جميع المجالات المعرفية والعاطفية للإنسان . لذلك فانه يزداد عمقا وتجليا بالمداومة عليه ويربطه بذكر الله وتسبيحه . حتى يصل المؤمن إلي درجة عالية يري بها قدرة الله وحكمته ورحمته وسائر صفاته في كل ما يري ويسمع من حوله .
- رفاهية الأشياء : إن هناك ظواهر طبيعية تستثير تلقائيا الفكر والمشاعر وتهز الكيان النفسي والروحي للإنسان وتفرض نفسها فرضا علي قلبه وفكره ، فوميض البرق ونصف الرعد وهطول الأمطار وزمجرة الرياح لها في النفس الإنسانية وقع خاص يأتي فيه التفكر دون جهد مرتبطا بانفعالات الخشية والرجاء ( هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشي السحاب الثقال ) صدق الله العظيم .(الرعد آية 12 )
- درجة ألفة المتفكر علي الأشياء : لا يستغرب القارئ أن تكون الألفة الشديدة والتعود عائقا للتفكر في الشيء وتدبره ، فالتكرار الرتيب يفقد أعظم ظواهر هذا الكون روعتها وعظمتها ، وألا فكيف لا تهتز مشاعرنا لرؤية الشروق كل صباح بما فيه من الآيات البينان وكيف لا تمتلئ أنفسنا بالخشوع ونحن نستعرض صباحا ومساء الخلائق التي تعمر أرضنا من نباتات وحيوانات وطيور في جو السماء وأسماك في البحار والأنهار . يقول ابن ا لجوزي سبحان من شغل أكثر الخلق بم هم فيه عما خلقوا له ! سبحانه !
- الخلاصة :
إن أهمية أي عامل من هذه العوامل يعتمد علي ظروف الشخص الذي يقوم بعملية التفكر ، ففي بعض الحالات يزداد عمق التفكر بشكل ملحوظ إذا تحسنت حالة المؤمن الانفعالية والنفسية ، وفي حالات أخري يجد المسلم نفسه وقد داوم علي التفكر والذكر إذا انتقل من صخب المدينة ليعيش في قرية نائية وجد فيها من يعاونه ويشد أزره في طريق البر والتقوى ، لكن العمل الأساسي الذي يحدد عمق الفكرة بالنسبة للمؤمن المتدبر في خلق الله هو العامل الإيماني . فعمق الإيمان والصلة بالله هما العمود الفقري ، وما العوامل الأخرى كقدرة المؤمن علي تركيز الذهن ودرجة معرفته بالشئ الذي يتفكر فيه وغيرها من العوامل التي ناقشناها ماهي في الحقيقة إلا جوانب ثانوية تخضع لهذا العامل الإيماني وتستمد قوتها علي التأثير من طاقته . وقد أخطأ من قال من العلماء المحدثين بأننا اليوم أقدر ممن سبقنا من المؤمنين – حتى في عهد الصحابة – علي الوصول إلي درجة أعلي من التفكر في خلق الله لازدياد معرفتنا بخصائص الأشياء بسبب تقدم العلم التقني الحديث ، وذلك لأن التأثير الحقيقي بما يراه ويحسه المسلم في بيئته يعتمد أساسا علي عمق إيمانه وخشيته لله وحبه له جل وعلا ، أكثر بكثير مما يعتمد علي ما يعرفه من معلومات ويكرسه من وقت للبحث في ظواهر الأشياء ، فالتدبر حالة انفعالية يتأثر فيها المؤمن بما يحسه ويدركه من دقة وجمال في كون الله الواسع وليس التفكر حالة معرفية باردة تزداد بازدياد المعلومات
- * لذلك من كان له إيمان الصحابة يكفيه القليل من الإيمان الظاهر لما يراه في بيئته والقليل من الوقت ليصل إلي أعماق من التفكر لا تشرئب إليها أعناق أمثالنا من الضعفاء وفي المقابل فان من كان له علم الأولين والآخرين بما يتفكر فبه وكان له كل ما يريد من وقت وهدوء بال ولكنه ضعيف في إيمانه فلن يصل إلي درجة عالية من التفكر مهما بذل من جهد .
التفكر في سنن الكون بين العلم التجريبي والدين
ان كانت هذه المكانة العالية التي أعطاها الإسلام لعبادة التفكر في خلق الله ، فقد تعس من أغلق قلبه وسمعه وبصره وبصيرته عن آيات الله الواضحة التي تعرض عليه صباح مساء في صفحات الكون الناصعة ( وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) صدق الله العظيم ( يوسف 75 ) بل ان بعضا من هؤلاء الغافلين ليعرفون كثيرا من خبايا آيات الله في المادة والطاقة وفي علم الحياة ، لكنهم لا يرتفعون بهذه المعرفة عن جوانبها الظاهرة السطحية فلا ينفذون من بدائع الخلق إلي خالفها وبارئهايعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون) صدق الله العظيم (الروم الآية رقم 70)
• أننا نلحظ إن تفكر المسلم في الكون وبحوث العالم التجريبي الحديث يتشابهان ولو ظاهريا ، في أن كليهما لا يفتش عن الأشياء المتفرقة التي لا صلة بينها ، بل يستنصيان السنن والقوانين العامة الثابتة في خلق السموات والأرض . ولعل هذه الفطرة التي أودعها الله جزب قلوب الرجال هي التي تجعل المتفكرين من علماء اليوم يتحدثون بلغة العباد ، فنستمع إلي عدد من العلماء حول ذلك أمثال ابن القيم رحمه الله ، الغزالي رحمه الله ، مصطفي محمود ، الزمخشري ، .. والذين عرضوا أمثلة لعمق تفكر المتدبر من علمائنا وعبادنا تظهر فيها بوضوح قدرتهم علي سير الأغوار للأشياء واكتشاف سنن الله في خلقه ، وأن هذا البحث من النواميس التي تنظم الكون يشترك فيها العبد المتفكر مع الباحث الحديث وان اختلفت الغايات وتباينت الملل ، ذلك بأن هذا الانتظام في الكون الذي يبحث عن قوانينه ومبادئه العلم التجريبي الحديث ، والذي يسمح لنا بالتنبؤ بأحداث الكون بدقة فائقة ، هو بذاته من أهم الأدلة التي يستخدمها القرآن الكريم لإثبات حقيقة الحقائق ...
• أن لهذا الكون حالقا إلها يمسكه وفي هذا يلجأ الوحي لاستثارة فطرة أعقدها الله في جذب قلوب الناس أولا وهي البحث عن هذه السنن والنواميس التي تنسق الكون :
• ( ان الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ذلكم الله فأني تؤفكون ، فالق الإصباح وجعل الليل سكننا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ،لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في ملك يسبحون )صدق الله العظيم .
• إن ظاهرتي انتظام السنن الكونية هذه ومن ثم التنبؤ بها في ظل هذا التناسق الدقيق ، هما في الحقيقة حجرا الزاوية للطريقة العلمية الحديثة method scientific ولا يقوم للعلم التجريبي صرح بدو نهما .
• إن الارتباط بين مداومة الفكر في كون الله الواسع كعبادة راقية وبين تقدم العلم ،أمر يؤكده تاريخ تقدم العلم التجريبي للأمة الإسلامية . فما من شك في أن الكشوفات والاختراعات التي قدمها علماء المسلمين في كل حقل وميدان فأذهلت العالم بأسره ، قد علمت أوربا الطريقة العلمية التي قامت علي أساسها حضارتها الغربية الحديثة ... ما من شك في أن هذا التقدم كان نتيجة مباشرة لإيمانهم العميق بالله و بسبب إتباعهم لتعاليم دينهم بالنظر في السموات والأرض ، والبحث عن سنن الله ونواميسه وآياته وحكمته في مخلوقاته مع الاستجابة لأمر رسول الله صلي الله عليه وسلم بطلب العلم .
إذن التصور المادي الجاهلي الذي أوهم الإنسان الغربي بأن التقدم العلمي قهر الطبيعة هو الذي ْأعطي الحضارة المادية الحديثة صورتها المشهودة والمشوهة المقطوعة الصلة بالله ، لذلك فان العالم بأسره في حاجة ماسة لربط العلم بالطمأنينة التي ينشئها التصور الإيماني والي السكينة التي تفيضها الفطرة المنبثقة من منهج الله وسننه . "ولن تجد لسنة الله تبديلا "( الأحزاب – والفتح )62-23 .
المفضلات