وبناءً عليه فقد عدلت خطط إعداد المعلم لتواكب هذا النهج، كما صممت في هذا الإطار برامج تقدم على شكل دورات ذات مدد محددة لتنمية مهارات التفكير الناقد لدى المعلمين، وكان من ضمن أهداف هذه البرامج :
تعريف المتعلمين بأهمية التفكير الناقد في الحياة المعاصرة.
تزويد المتعلمين بمعلومات عن طبيعة التفكير الناقد ووظائفه ومراحل نموه.
تنمية توجهات إيجابية لدى المتعلمين نحو تعلم وتعليم التفكير الناقد.
إكساب المتعلمين قدرات ومهارات التفكير الناقد.
تطوير قدرات المتعلمين لتدريس التفكير الناقد وتضمينه طرق تدريسهم.
إكساب المعلمين القدرة على قياس وتقييم مهارات التفكير الناقد لدى تلاميذهم.
ويقوم بإعداد وتدريس هذه البرامج مجموعة من المتخصصين المؤهلين بالتعاون مع مدرسين متعاونين من العاملين في مجال التعليم، وعادة ما تدرس مثل هذه البرامج من خلال مجموعات صغيرة وتستخدم فيها أساليب تدريسية توازن بين التعليم الذاتي والتعلم التعاوني التفاعلي، كما يتخلل هذه البرامج عقد ندوات متخصصة تتيح المجال لعرض الخبرات في مجال إعداد المشروعات والوحدات التعليمية وتبادل المناقشات وتحليل القضايا والمشكلات ، وكذلك تقديم ورش عمل ذات طبيعة تطبيقية يتبادل فيها المتعلمون الأدوار في بيئة تعليمية محفزة تستثير التساؤل والبحث والاستفهام والتفكير ،كما يدرب المتعلمون من خلال هذه البرامج على كيفية تعليم مهارات التفكير الناقد وكيفية تقييمها من خلال المواد المختلفة، و يوجهون لإعداد وحدات تعليمية مبنية على إدخال مهارات التفكير الناقد ضمن هذه المواد.
وعادة ما يتم التقييم من خلال أفلام فيديو يتم تصويرها أثناء الممارسات التعليمية، حيث يستطيع المتعلم بعد مشاهدتها تقييم نموه ومدى التقدم الذي أحرزه في اكتساب مهارات التدريس، كما يتم التقييم كذلك في ضوء ملاحظات المشرفين والمعلمين المتعاونين والزملاء، والتقييم هنا لا يقتصر على ما حصله المتعلم من معارف ومعلومات وإنما على ما اكتسبه من مهارات وقام به من أنشطة ميدانية ومعملية وقدمه وناقشه من مشروعات من خلال السمينارات والحلقات الدراسية.
وقد تعزز الاهتمام بتعليم التفكير الناقد في المدارس السنغافورية بإنشاء مركز سنغافورة لتعليم التفكير، والذي تم تأسيسه عام 1998 بمبادرة وإشراف من المعهد الوطني للتعليم في سنغافورة وبدعم من الحكومة السنغافورية بالتعاون مع المركز الوطني لتعليم التفكير في مدينة بوسطن بولاية ماستشيوس الأمريكية، وتحددت مهام المركز في ثلاث وظائف رئيسية في مجال تعليم التفكير هي :
التدريس / التدريب.
تطوير البرامج والمواد المساعدة.
القيام بالدراسات ونشر البحوث.
ويقدم المركز من خلال دوراته المتخصصة ، والتي يعدها ويقدمها متخصصون وأصحاب خبرة وكفاءة يستضيفهم المركز من مختلف بقاع العالم ، مجموعة من المواد مثل مهارات التفكير الناقد وكيفية تعليمه، فن التدريب المعرفي، أساليب تدريس التفكير بشكل مستقل، أساليب تدريس التفكير ضمن محتوى المواد الدراسية وكيفية قياس وتقييم التفكير.
كما توجد بالمركز قاعدة معلوماتية كبيرة تحتوي على العديد من نتائج الدراسات في مجال تعليم وتنمية وتطوير مهارات التفكير، وهي معلومات متاحة لجميع أهل الاختصاص من مربين ومعلمين وباحثين وأولياء أمور.
ويعد هذا المركز بما يمتلكه من خبرات مؤهلة ومصادر تعليمية متنوعة في مجال تعليم وتنمية مهارات التفكير رافداً مهماً تستفيد منه جميع مؤسسات المجتمع وبالأخص المدارس والجامعات ومؤسسات إعداد المعلم في تصميم وتنفيذ برامجها، كما يقوم المركز وفي إطار سعيه الدؤوب للارتقاء بنوعية التعليم في سنغافورة بتقديم العديد من الخدمات البحثية والاستشارية لهذه المؤسسات بهدف دعم جهودها لتعليم مهارات التفكير وتضمينه في مناهجها والارتقاء بطرق وأساليب تدريسه وتدريبه.
خلاصة .. ودروس مستفادة :
أولت سنغافورة اهتماماً كبيراً لتعليم التفكير الناقد وتنمية مهاراته في مدارسها ضمن جهودها نحو تحسين عمليات التعليم والتعلم، وذلك بغية إعداد مواطنيها للتعايش مع روح العصر واستيعاب متغيراته، وصيغت تبعاً لذلك الأهداف وصممت الخطط وبذلت الجهود لضمان نجاح هذه التجربة وتحقيق أهدافها، وقد استندت تجربة سنغافورة في تعليم مهارات التعليم الناقد في استقرارها واستمرارها إلى مقومات عديدة لعل من أهمها :
الغطاء السياسي والذي تمثل في حماس ودعم الحكومة لهذا النوع من التعليم.
القناعة التامة لدى المسؤولين عن التعليم بأهمية التفكير الناقد ودوره في بناء المواطن المتوافق مع متطلبات العصر ومتغيراته.
سعي المسؤولين عن التعليم للاستفادة من خبرات الدول المتقدمة في هذا المجال مع محاولة تطويع هذه الخبرات لتتوائم مع الواقع والثقافة السائدة.
المبادرة أولاً وقبل كل شيء بإعداد المعلم القادر على تعليم مهارات التفكير الناقد وتهيئة المناخات المناسبة لتعليم هذا النوع من التفكير وممارسته.
ولا شك أن المتتبع لهذه التجربة يدرك تماماً أنها لم تنبع من فراغ، وإنما من اعتقاد راسخ بأن التعليم يمكن أن يؤدي دوراً إيجابياً وفاعلاً في التنمية وتطوير المواطن متى ما أحسن إعداد أهدافه ورسم خططه ووفرت لهذه الخطط مقومات النجاح وإمكانيات التنفيذ.
وأن المتأمل لحال تعليمنا سواء من حيث الأهداف أو المضمون يجد أنه بالرغم من كل الجهود التي بذلت لتطويره، والوقت والمال والإمكانات التي استنفذتها جهود التطوير.. إلاّ أن هذا التعليم ظل عاجزاً عن تزويد المتعلم بمدخلات تثير ذهنه وتحفز فكره، فمناهج التعليم إن ركزت فأنما تركز على تهذيب سلوك المتعلم وزيادة معلوماته من خلال معرفة حفظيه لفظية سماعية تقف حائلاً دون ظهور مخرجات التعليم في صورة أداء عمل يستوعبه المتعلم ويمارسه، أما ثقافة التفكير واشغال العقل فهي أمر منسي في مناهجنا التعليمية، إن لم يكن بعيد التحقيق والمنال.
إن التربية بمعناها التقليدي والمتمحور حول ثقافة التلقين والحفظ والتذكر والتي كانت قادرة على مقابلة احتياجات المجتمع في فترات سابقة، لم تعد لها هذه القدرة الآن في مواجهة الاحتياجات المتجددة والمتزايدة لمجتمع اليوم السريع التغير، حيث أن المعلومات ومع تسارعها وتزايدها وتنوعها لم تعد تمثل أهمية في عصرنا الحاضر إلاّ بقدر أعمال الفكر فيها واستخلاص الجديد والمفيد منها، وبناءً عليه فإنه على تعليمنا ألا يتوقف في أهدافه ومراميه عند توسيع مدارك المتعلم وزيادة معلوماته، وإنما ينبغي أن تطور هذه الأهداف لتشمل تنشيط عقل المتعلم واستثارة ذهنه وتحفيز تفكيره، فالتفكير هو جوهر التعلم، وتوظيف التفكير في التعلم يحول عملية اكتساب المعرفة من عملية خاملة إلى نشاط عقلي تأملي يفضي إلى إتقان أعمق للمحتوى المعرفي، وإلى ربط أفضل لعناصره ومحتوياته وقدره على ممارسته وتطبيقه، وبالتفكير المتأمل يعايش الإنسان ظروف عصره ويستوعب متغيراته ويتعامل بفاعلية واقتدار مع قضاياه ومشكلاته.
وإننا إذا كنا نسعى بالفعل لتطوير تعليمنا وتحديثه بما يواكب متغيرات العصر في أهدافه ومضمونه ومحتواه، فحرى بنا أن نستفيد من خبرات وتجارب الآخرين في هذا المجال ، وأن نعمل بقدر الإمكان على تكييف هذه الخبرات والتجارب وفقاً لمقتضيات واقعنا وثقافتنا وفي إطار يلبي احتياجاتنا ويحقق أهدافنا ويخدم مصالحنا، وتجربة سنغافورة في مجال تعليم وتنمية مهارات التفكير الناقد وإن كانت لا زالت تعد فتيه مقارنة بتجارب عالمية أخرى كثيرة في هذا المجال، إلاّ أنها تظل بالنسبة لنا تجربة جديرة بالتأمل والنظر والاهتمام ، وبخاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن مجتمعنا يشهد في هذه الأيام، وفي إطار المحاولات المستمرة لإصلاح حال التعليم وتطوير محتواه اهتماماً غير مسبوق بإعادة صياغة أدوار المدارس وأدوار المعلمين وتغيير محتوى المناهج وطرائق التدريس ونوعية أدوات القياس والتقويم المستخدمة في مختلف مراحل التعليم.
المفضلات