إستراتيجية الهجرة
لقد كان التخطيط الإستراتيجي واضحًا في فكر النبي e وهو يترسم خطاه وسط الأمواج العاتية في جزيرة العرب، وملامح هذا التخطيط الإستراتيجي هي:
- تحديد الرسالة:
من نحن؟ وما الهدف من وجودنا؟ وما المشكلات التي تواجهنا؟
كان الهدف واضحًا، وهو الحصول على بقعة أرض يُقام فيها مجتمع وتؤسس فيها دولة، وتنطلق منها الدعوة إلى الآفاق، وكانت العقبة الكئود أمام تحقيق هذا الأمر هو عناد واستكبار مشركي قريش وصدهم عن سبيل الله.
- تقييم البيئة المحيطة:
كانت البيئة في مكة لا تصلح لإتمام هذا الأمر؛ فمقاومة المشركين للإسلام تزداد شراسة يومًا بعد يوم، وقلوبهم كالحجارة بل أشد قسوة؛ فهل تُغنِي مخاطبة الحجارة؟!
لقد وصل تقدم الدعوة في مكة إلى طريق مسدود، ولم تعد هناك فائدة من تكرار المحاولة.
وكان لا بد أن تكون الأرض المنشودة أرضًا عربية؛ لأنه لا يمكن أن يقوم لهذا الدين كيان إلا في ظل مجتمع عربي يتكلم العربية، ويفهم القرآن كتاب الله المعجز، خصوصًا حَمَلة الرسالة الأولين.
فنظر الرسول e إلى مدينة الطائف راجيًا من أهلها الاستجابة وهم لهم مقام رفيع بين العرب، ولم يكن جوابهم أقل سوءًا من إخوانهم مشركي مكة.
وكان يغشى المواسم ويأتي الأسواق كعكاظ ومجنة وذي المجاز.
وكانت الاستفادة من وجوده في مكة وهي محج العرب يفدون إليها من كل مكان، ومحاولة الالتقاء بوفود القبائل، وعرض الإسلام عليهم، بل وكان يتبع منازلهم عسى أن يستجيب مستجيب؛ فينال الشرف العظيم.
وأدرك النبي e أن المشكلة في رفض القبائل له هو طلب النصرة والحماية لحرصها على رضاء قريش، ولما يعنيه ذلك من حرب الأسود والأحمر؛ فلم يطلبه من أهل يثرب في أول الأمر حتى أطلعه مصعب على نتيجة عمله.
- استعراض الموارد:
وكان الرسول e في الوقت الذي يبحث فيه عن مكان آخر يدرك أن في قريش من الإمكانات ما ينبغي الاستفادة منه لخدمة الدعوة، وهو يريد أن يدخر هذه الإمكانات والطاقات للمستقبل؛ لذلك عندما جاءه جبريل ومعه ملك الجبال -بعد خروجه من الطائف- يستأمره في أن يطبق على أهل مكة الأخشبين، قال: "بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا" (من حديث رواه البخاري).
وهذه قمة بُعد النظر، أن تدخر أعداءك للاستفادة منهم مستقبلاً، ولولا ذلك لما وُجد خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو... وغيرهم كثير، كما أن أهل الطائف أصبحوا بعد إسلامهم أشد القبائل العربية دفاعًا عن الإسلام، وجرت على أيديهم الفتوحات.
وكانت طاقات المسلمين وإمكاناتهم مبعثرة أو معطلة، وكانت الحاجة لمكان تتجمع فيه هذه الطاقات البشرية وتتفجر فتقوى شوكتهم ويكثر سوادهم؛ لذلك كان الأمر لجميع المسلمين بالهجرة -فيما بعد- لإمداد الدولة الوليدة بالطاقات البشرية والكفاءات الكفيلة بمواجهة أعداء الإسلام.
- طرح البدائل وتحديد الخيار:
لقد كان الرسول e يعرف ما الإسلام، وماذا يريد، ويدرك البيئة والصعوبات المحيطة به، ويطرح البدائل في ضوء الرؤية الإستراتيجية الواضحة.
إما المكوث بمكة وهو يعني النفخ في قِربة مثقوبة، وإما الخروج للبحث عن مكان جديد، واستمر في البحث عن البديل حتى جاءت نسمات يثرب.
- التدرج في الخطوات:
لم يكن رسول الله e يتعجل خطواته، ولا يقطف الثمرة قبل أوانها؛ فقد كان القوم يلاقون الأهوال من بطش قريش، ومع هذا لم يأذن الرسول e لهم بحمل السلاح؛ فهو يعلم أنه إن رفع سلاحًا فإن المشركين سيجتثون المسلمين عن بكرة أبيهم، وقد رأيناه كيف تدرج في خطواته مع أهل يثرب؛ فقد طلب منهم أولاً أن يُسْلموا ويصدقوا وينظروا في قومهم، وبعد سنة بايعهم على ما لا خلاف عليه من أخلاق وفضائل، وأجّل طلب حمايته ونصرته، وأرسل معهم مصعبًا ليتلو عليهم القرآن، وينظر في توقيت طلب النصرة منهم، وبعد سنتين طلب منهم البيعة على قدومه وحمايته، وجعل نقباءهم من أنفسهم، بعد أن أصبحت الأرضية جاهزة لبناء دولة الإسلام.
- وضوح الرؤية:
وقد وضحت الرؤية باستجابة أهل يثرب، وبتأكد الرسول e من إخلاصهم لربهم، واستعدادهم لحمايته، وحماسهم لإقامة دولة الإسلام.
فكانت يثرب هي الوجهة، وهي أنسب مكان لبناء الدولة، وأصبحت مأرز الإيمان وموطن الإسلام.
وهكذا فقد عرف محمد e طريقه وأدرك غايته، بما أوتي من فكر ثاقب، وإستراتيجية واضحة، ومعرفة بالواقع، وخطوات محسوبة، وقبل كل ذلك تأييد من الله..
ولم يبقَ إلا العمل.